الكون .. ذلك المدى الواسع إلى أبعد حد لدرجه تجعل تصوّره ضرباً من المستحيل.. إنه ذلك المدى الذي يكمن بداخله كل شيء والذي سعى الإنسان كثيراً لسبر أغواره واكتشاف خباياه.. ولعل أكثر ما سعى الانسان إليه هو معرفة: كيف بدأ؟
قرأنا كثيراً عن بداية الكون ونُشِرت الكثير من الكتب والأبحاث والنظريات في سبيل شرح تلك البدايه وقد حان الوقت لنرى تلك البدايه لا لنقرأها.
علماء الأحياء والتطور وعلماء الفلك وأمثالهم يقضون الكثير من الوقت في جمع البيانات والبحث عن الدلائل والحفريات لمعرفة حقيقة هذا الكون، ولكن على الضفة الأخرى نجد أن الفيزيائيين لديهم المقدره على رؤية الماضي عبر عدسات الرياضيات.
وهو ما يمكننا ان نُطلق عليه “المحاكاه”، فمن خلال تحليل ما لديهم من معطيات وبيانات عن شئ ما وباستخدام الأدوات المناسبه يمكنهم رؤية الخط الزمني لذلك الشئ عكسياً. وقد ساهمت عملية المحاكاة في الكثير من الاكتشافات والتوقعات في الكثير من المجالات مثل توزيع النجوم وتوقع الزلازل وحركة الرياح والكواكب.
والآن وصلت هذه العملية لأقصى ما يمكنها متمثلة في محاكاة بداية الكون! وقد تم عمل أكثر من محاكاه لنفس الفكرة من قبل ولكنها إما كانت محاكاة مبنيه على مِقياس كبير متجاهلة العديد من التفاصيل، أو ركزت على جزء معين وتركت الأجزاء الأخرى مهمّشه.
أمّا هذه المحاكاه والتي يُطلق عليها “illustris” فهي تستخدم برنامجاً مُعقّداً أمضى مُطوروه خمسة أعوام في تطويره، ويستطيع البرنامج أن يتتبع ويُعالج تقريبا 12 مليار “voxels” كلٌ بحالته الفيزيائيه وخواصه وتأثيراته المختلفه – الفوكسل هي وحده تُمثِل قيمه في الفراغ ثلاثي الابعاد وهي مكونه من جزئين, الحجم Volum و البكسل Pixel وتستخدم هذه الوحده لتمثيل الفراغ الغير متجانس – بالإضافه لقدرته على محاكاة الأحداث الشاذّه مثل الثُقوب السوداء.
النتيجه كانت محاكاه دقيقه لتاريخ الكون ولكن بِدءاً من 500 مليون سنه بعد الانفجار العظيم، والسبب أنه قبل ذلك الوقت قدرة البرنامج على توقع ومحاكاة الأحداث تُصبح أقل دقه لاقتراب الزمن من لحظة التفرّد “Singularity”
في المحاكاه نرى مكعباً يحتوي بداخله 350 مليون سنه ضوئيه – 41,416 مجرّه – بدقة 12 مليار فوكسل والذي يوضح تشكُّل النجوم وتَجمُع كتل المواد الضخمه-الناتجه عن الانفجار وتفاعل الغازات- الغير متشكِّله في قِطع عشوائيه والتي تنتظم بعد ذلك في تجمّعات من وحدات صغيره لتشكل المجرات التي نعرفها اليوم كما يوضح حجم الكون وأبعاده في الفراغ.
يُعد هذا الأمر قفزة ضخمه في في عدة مجالات مُجتمعه، فعملية تمثيل ومحاكاة 12 مليار وحدة جميعهم في حالة حركة مع الأخذ في الحُسبان تأثيرهم على بعضهم البعض قد تستغرق من الحاسب الشخصي آلاف السنين، في حين أن الفريق استغرق عدة أشهر لعمل هذه المحاكاه باستخدام 8000 مُعالج فائق السرعة.
وتُعد هذه المحاكاة الأولى التي تُمثل المادة السوداء والطاقه السوداء – تكوّن معظم الكون مِنهُما - والماده مجتمعين بِدءاً من حالة الكون كما نلاحظها اليوم. يظهر في المحاكاه تأثير المكونات المختلفه للكون على نشأته.
على سبيل المثال تتفاعل المادة السوداء والطاقه السوداء مع المادة العاديه عن طريق الجاذبيه، وبإدراك البرنامج لذلك يستطيع أن يتوقع الأماكن الممتلئه بالماده والخاليه منها في المجرات كما نراها اليوم، بالإضافه لقدرته أيضاً على تمثيل القوى الدقيقة مثل الرياح الناتجه عن تكوّن نجم جديد أو الدوامات والحراره الناتجه عن نشأة الثقوب السوداء وقياس كمية الغازات الموجوده في الكون وتوزيعها أيضاً، حيث اكتشف العُلماء بفضل هذه المحاكاه أنه في وقتنا هذا 81 في المائه تقريباً من الغاز الموجود في الكون متواجد بين المجرات وغير مُستغّل.
كما تمكن البرنامج أيضاً من تقصّي حقيقة المجرات التابعه – وهي المجرات التي تدور حول مجرات أخرى – وتأثيرها على تطور الكون.
بعض النقاط التي يعمل عليها الفريق حالياً هي زيادة دقة المحاكاه لنتمكن من مشاهدة المكونات الداخليه للمجرات أثناء نشأتها وتصحيح بعض البيانات المتعلقه بأعمار النجوم في المجرات الصغيره والتي لم تكن صحيحه!
يمكنكم مشاهدة 13 مليار عام من عمر الكون في الفيديو التالي
كما يمكنكم مشاهدة المزيد من الصور والفيديوهات عبر هذ الرابط
ويمكن مشاهدة المحاكاه بشكل تفاعلي عبر هذا الرابط
