“إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يُرجَّح أنه قد تشكل عن طريق العديد من التعديلات المتعاقبة والطفيفة، فسوف تنهار نظريتي تماما”. (1)
يعتبر بعض المتحمسين لداروين مقولته السابقة دعوة ”للتحدي” ، فى حين يرجعها المتابعون إلى ”الشك” وعدم الثقة المتأصلان فى نظريته التي تناقش “أصل الأنواع” .
أيا كان المقصد ، فأطروحتنا التي بين أيديكم اليوم هي إستجابة لدعوة داروين أو تأكيدا لشكه والتبعات هو من وضعها .
- ما هى الحياة وكيف يدحض تعقيدها الداروينية ؟.
- ما هي تلك النظم الحيوية الغير قابلة للإختزال، وكيف تمعن فى تحدي الداروينية؟.
- كيف تعاطى أنصار التطور مع تلك المعضلة ، وهل إستطاع ”كينيث ميلر” تخطيها وتفنيدها كما إدعى خلال شهادته فى محاكمة التصميم الذكي الشهيرة “دوفر” ؟؟
- هل تكسب تلك النظم مضاربة داروين وتحقق توقعه بإنهيار نظريته أم تؤكد أنها مازالت عقيدة مادية راسخة ؟.
هنا نحاول الإجابة على هذه أسئلة فتابعوا :
ماهي الحياة ؟
الفرق بين ..(الحى والميت) ، ..(الحياة والجماد)
هكذا ظل منتهى علمنا بالحياة حبيسا داخل حدود هذا التوصيف ،
وتبنت الحياتية فكرة وجود مادة خاصة وقوة حيوية غير موجودة فى الجمادات هي ما تميز الحياة ، وكان كثير من أتباع تلك المدرسة من الغائيين teleolgists الذين يعتقدون أن الحياة وجدت لتحقيق غاية أخروية.
ففى أواخر القرن التاسع عشر أتت الداروينية حاملة فى كنفها نزعة مادية عاتية كمخرج من سطوة الفكر الديني الأنجليكاني الذي تسيد المشهد البيولوجي آنذاك، فأنكرت وجود الغاية الكونية ، وإستبدلتها بقانون الانتخاب الطبيعي لقيادة التنوع الأحيائي من خلال مبدأ الصراع من اجل البقاء، بالاضافة الى نهج التبسيط والإرتقاء الذي يحاول تخطى معضلة تعقيد الحياة فى الوقت الذي كانت فيه دراسة الطبيعة طريقا إلى معرفة الله وحين كان مشاهير علماء التاريخ الطبيعي يلتمسون التقوى من خلال ذلك ، مثل جلبرت وايت الذي ألف كتابا عن إكتساب المعرفة بالملاحظة عنوانه ”التاريخ الطبيعي لسلبورن “ و الباحث الموسوعي وفيلسوف العلم ويليام هيويل الذي ألف “رسائل بريدجووتر ”التي تناقش حكمة الله وقدرته ودوره المباشر فى خلق العالم الطبيعي ، والعالم الشهير ويليام بالي الذي كتب “ التاريخ الطبيعي اللاهوتي ” وعنوانه الفرعي “الأدلة على وجود الذات الإلهية وصفاتها مأخوذة من مظاهر الطبيعة “ ومنه إنتشر تشبيه صانع الساعات الإلهي حين قال : “عندما نجد ساعة قابعة فوق الأرض نستنتج بداهة أن حرفيا ذكيا قد صنعها ،وعندما نجد حيوانات ونباتات صممت تصميما معقدا وتتكيف على نحو رائع ، ينبغى بالمثل أن نستنتج أن خالقا قديرا حكيما قد صنعها” .
بيد أنه من المفارقات المتعلقة بهذا الشأن أن أحد أهم اسباب سقوط الحياتية هو ما ثبت صحته لاحقا مع سيرورة التقدم العلمي، فبالرغم من فشل الحياتيون فى حل لغز تلك المادة المميزة للحياة والتي أطلقوا عليها آنذاك “البروتوبلازم” . فإن المشتغلون بالبيولوجيا اليوم يعلمون أن الحياتية كانت على حق فى إحتجاجها بتميز الكائن الحى عن الجماد بميزات مذهلة تم الكشف عنها تباعا مع تقدم العلم وكان أهمها البرنامج المعلوماتي الجيني (الحمض النووي DNA).
ماهو النظام الحيوي ؟
فى عام 1931 أعلن عالم الفسيولوجيا هالدين s.j.haldane أن علماء الأحياء (البيولوجيين) لم يجدوا بدا من التخلي عن الحياتية بسبب كونها فكرة ميتافيزيقية في التوصيف المادى، ولكن فى الوقت ذاته كان يقول أن أي تحليل آلى بحت لا يمكنه تفسير هذا التناسق المذهل للحياة ،
وبذلك فإنه رغم إنحسار فكرة الحياتية عن قيادة الوجهة البيولوجية لم تتسيد فكرة الالية الميكانزمية التسطيحية على المشهد بقدر ما مهد لظهور مدرسة أخرى تسلمت الراية من سابقتها ونحت وجهتها المادية بإتباع النهج الفيزيوكيمائى لتفسير النظام الحيوي وسميت بالعضوانية ،
لكن بالرغم أن هذا النهج قد تأهل لتوصيف الكثير من العمليات الحيوية على مستوى الجزيئات، فإنه يفتقد صلاحيته تماما فى تفسير علة ذلك التكامل التكويني المذهل للكائن الحى وكيفية وسبب حدوثه،
وكلما إرتفع المستوى الذي يجري فيه الاختبار على طريق تكامل تكوين الكائن الحي إرتفع معدل الفشل وخابت الامال المرجوة ،
فعند النظر فى المجاهر ، تبين للعلماء أن حياة الكائنات المتنوعة من بشر وحيوانات ونباتات هي محصلة لتعاون مئات المليارات من الخلايا المنفردة الدقيقة الغير مرئية التي تخصصت في وظائفها تخصصا عاليا لدرجة أن أي منها لم تعد قادرة على الحياة منفردة ، ومن ثم أصبحت مهمة العلماء هي فهم وظائف الخلايا المنفردة وطريقة تعاونها لأن المجال المرئي من العالم لم يقدم تفسيرا للحياة . وبدا لهم آنذاك أن من يستطيع أن يعرف لماذا تمكنت هذه الملايين من الخلايا ،والتي توالدت جمعيها لدى كل حي من خلية (بويضة) ملقحة من أن تتطور تطورا غائيا إلى العديد من الانواع المختلفة من الخلايا عالية التخصص الوظيفي ، فإنه بذلك قد ملك سر الحياة، بيد أن هذا السر يأبى الا أن يزداد غموضا فوق غموضه ،فلا زالت مسألة التنوع الخلوي بدون حل حتى يومنا هذا ، وما زاد الامور تعقيدا هو إكتشاف العلماء طبقة أعلى من التعقيد تحت المستوى الخلوي بداخل عمق الخلية ذاتها ، وكان هذا المسار خطوة أولى فى ما يسمى مجال “البيولوجيا الجزيئية ” ، والتي اعطتنا الكثيرمن التساؤلات والألغاز المركبة بدلا من أن تمنحنا الإجابات ،
وظل التساؤل : كيف تنجز هذه الخلية مهامها وما هي العوامل التي تنظم وظائفها المتعددة في كل واحد منسجم ؟ .
وصف العلماء الكائنات الحية كنظم غاية فى التعقيد على مستويات وطبقات متعددة حيث تعتمد الخصائص المميزة لها على ”تنظيم الكيان” أكثر من اعتمادها على ”تركيب الكائن ”،
فإرتباط الكل بأجزائه فى عالم الحياة لا يقتصر علي التكامل الكمي بينهما ، بل يشمل أيضا ما ينتج عن ذلك من سيطرة الكل على اجزائه ،وفهم الكائنات المتعضية الحية ينبغى أن يتم من منظور كلي كما يخبر s.j.smuts :“إن الترابط بين أجزاء أي كائن حي متعض ينطوي على نوع من التفاعل النشط بينها، فهذه الجزيئات فى حد ذاتها يمكن إعتبارها كليات صغرى كما هو الحال فى الخلايا التي يتألف منها جسم أي كائن حي “
ويشرح ألكس نوفيكوف alex novikoff “ان الكل والجزء _كلاهما كيان مادي والتكامل ينتج مما يتم بين الاجزاء من تفاعل مرتب على خصائصها ” فالكلية لا تنظر إلي الوحدات الفيزيوكيميائية التى يتكون منها الكائن الحي بإعتبارها أجزاء فى آلة يمكن فكها ووصفها من دون إعتبار للجهاز الذي إنتزعت منه” وهو ما لخصه بيولوجيون آخرون فى عبارة موجزة هي :” الكل شئ مختلف عن مجموع اجزائه “.
ومن ذلك فإن وصف الأجزاء المعزولة لا يمكن أن ينقل صورة عن خصائص الجهاز الحيوي ككل ولا يمكنه أن يفسر وجوده، فالذي يتحكم فى الجهاز كله هو ما يربط بين هذه الأجزاء من نظام يطلق عليه إسم التعضي organiztion .
وتكامل الأجزاء قائم على كل مستوى من مستويات التكوين : ففي الكائن المتعضي الواحد يتم التكامل فى الخلايا ، ثم بين تلك الخلايا ، فالأنسجة ، فالأعضاء ، فالأجهزة العضوية التي بتكاملها يكتمل كيان الفرد .
كيف يعمل هذا النظام ؟
وما هو سر وجودة ؟
وهل نجحت الداروينية حاملة راية التفسير المادي فى شرحه، أم أن هناك نظريات أخرى بديلة ؟
هذا ما نحاول إستكشافه من خلال تتبع تسلسل المجريات التالية .(2).(3)
أمام روعة هذه التصاميم الحيوية يقف داروين عاجزا ويكتب عن تركيب العين فى كتابة أصل الأنواع :
- إن الإفتراض بأن العين بكل ما أتيت من قدرات فذة لتعديل التركيز وفق مسافات متباينة ، والسماح بكميات مختلفة من الضوء ، وتصحيح الإنحراف الكروي واللوني ، قد صاغها الإنتقاء الطبيعي ،هوعلى ما يبدو، إفتراض سخيف غاية السخف وأنا اعترف بذلك .(4)
منذ الوهلة الأولى أعلنت الأعضاء الحيوية مفرطة الإتقان extreme perfection عن تحدي على نحو لا لبس فيه لفرضية التطور المتدرج والتبسيط التى تبنتها الداروينية كتفسير مادى طبيعي لحدوث الحياة بمعزل عن التصميم ، والتي تفترض أن هذه العضيات الحيوية تمر أثناء رحلة تطورها المزعومة عبر سلسلة من المراحل الوسيطة الطفيفة والمتتالية ، يقوم خلالها الإنتقاء الطبيعي بصياغة تكيفها تدريجيا، بالحفاظ على تغيرات المرحلة المفيدة والوظيفية وتدمير ما هو غير صالح أو أقل تكيفا ، وهنا تكمن المعضلة المحورية ، فهذه الأعضاء لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها الا بوجودها مكتملة ، والكيانات الوسيطة المتتالية التي من المفترض أن يمر بها العضو أثناء رحلة تطوره ليس لها أي معنى وظيفي إلا بوصفها أجزاء من المنتج النهائي ،
ومن ذلك فإن كافة المراحل الوسيطة ليس لها أي ميزة إنتقائية و ينعدم الدور المخول للإنتقاء الطبيعي فى الحفاظ عليها وتثبيتها لأنها لا تحمل له أي قيمة تكيفية أثناء تطور العضو بل هي مجرد أعضاء مشوهة ناقصة تمثل عبئ يجب التخلص منه.
فالإنتخاب الطبيعي عملية لا غرض لها ، عمياء عن رؤية المستقبل ، ليس لها أهداف ، ومعيارا التقييم الوحيدان لها هما :النجاح فى البقاء ،والنجاح فى التكاثر وهذا ما يجب أن يتوافر فى كل خطوة من خطوات التغيير فى نشوء العضو الحيوي ولكن الطبيعة الغير إختزاليه للعضيات الحيوية التي لا تقبل التدرج الوظيفي أو الإنقاص تفشل هذه العملة تماما ، فهي إما تكون ككل أو أبدا لا تكون .
بالرغم من إعترافه بحجم تلك الاشكالية، فقد تعاطى معها داروين بمنهجية ملتوية ونقل عبئ الإثبات لجهة المشككين مطالبا إياهم بإثبات خطأ إدعائه الذي يطالب هو بإثباته كأصل لقبول فرضيته وذلك لإدراكه الراسخ بأنها جولة خاسرة فقال فى كتابة أصل الانواع :
- إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يُرجَّح أنه قد تشكل عن طريق العديد من التعديلات المتعاقبة والطفيفة، فسوف تنهار نظريتي تماما. (1)
مرت عقود عديدة على طرح داروين وهو ما يمثل زمنا طويلا جدا بمقياس مسار العلم الحديث ، ويبقى التساؤل البديهي الذي يفرض نفسه حتى الان ،….هل نجح تلامذته فى تخطى تلك العقبات ؟
رغم التقدم العلمي الهائل فى رصد تعقيدات حيوية مذهلة ،والتي من المفترض أن تزيد من صعوبات تفسيرها بالإرتقاء والتطورعنها فى عصر داروين ، الا أننا وعلى نقيض ذلك نلاحظ أن داروين كان أكثر معقولية وإتساقا من أتباعه فى مواجهة مشكلات التعقيد رغم إحاطته المعرفية المحدودة بفداحته وترفع عن سلوكهم المتعمد بذلك التدليس الإنتقائي بتسطيح التناول حول تطور هذه الاعضاء،ويمكننا القول أنه من السذاجة أن نقبل وفق معرفتنا الحالية بكم هذا التعقيد بأنه من الممكن من خلال محاذاة بسيطة لسلسلة من الكائنات العائشة الأقل تعقيدا إلى الأكثر تعقيدا أن نستنتج أن نوعا من التطور التدريجي على مدى ملايين السنين سيكون مسؤولا عن تفسير التعقيد الحادث به، وهذا السبيل بعينه هو ما يجادل به أنصار التطور منذ عهد داروين وحتى يومنا هذا لتفسير وجود تلك النظم الحيوية المعقدة دون تقديم أي آلية فعلية لسيرورة هذا التحول المفترض ،
فعلى سبيل المثال : تعرض لنا الداروينية محاكاة لتطور العين تشرح كيفية تحول بقعة حساسة للضوء كنظام رؤية بدائي تدريجيا إلى تجويف منخسف شديد التقعر، ثم نصف الكرة مملوءة بمادة شفافة ، وبعد ذلك تحولت إلى ما هي عليه الآن فى العيون الأكثر تعقيدا معتمدا فى ذلك على صنع إصطفاف لنماذج من العيون المختلفة فى الكائنات العائشة اليوم من البسيط إلى الأكثر تعقيدا .
تكمن الاشكالية هنا فى خطأ منهجي متمثل فى صحة الاستدلال على التطور بالإستناد على خصائص بعض العيون الموجودة في الوقت الحاضر، فلا يمكن بأي حال من الاحوال تمثيل العيون التاريخية التي من المفترض أن تمثل الأسلاف من خلال سرد سلسلة من العيون الموجودة حاليا،والتى تمتلكها أنواع حية عصرية لأن التطور يتطلب أن كل العيون الحالية لديها نفس القدر من التاريخ التطوري وهى أبناء عمومة لا يمكن إعتبارها أسلافا لبعضها البعض .
إن هذا النهج يتطلب إعتراف الداروينية بأن هذه العيون الحديثة ‘البسيطة’ فى أول السلسة التطورية هي نظائر للعيون المفترضة للأجداد ومماثلة لها وهذا يضعهم فى حرج حقيقي لأنه بالتبعية يؤكد أن تلك العيون لم تتطور أو يطرأ عليها أي تغيير منذ أزمان سحيقة وهو ما يناقض الفرضية التطورية برمتها حول سيرورة التطور الدؤوبة ،
داروين نفسه كان يدرك جيدا عدم صلاحية هذا الإصطفاف للإستدلال وعلى الرغم من ذلك وقع هو نفسه فى ذلك الخطأ وتفشى فى نهج أتباعه .
the crucial importance of this requirement to the theory of evolution was fully understood by Darwin, who stated that, in searching for the gradations through which an organ in any species has been perfected, we ought to look at its lineal progenitors. Indeed we ought; though he himself could not do so. It is deceptive to the reader to create a seriation beginning with eye spots as seen in unicellular organisms and call them, as does Duke-Elder (1958), the earliest stage of evolution. (5)
**
حين نحاول التعاطي مع حجة التطور السابقة حول إصطفاف (تطور العين كمثال) ، فإننا وبمجرد الخوض في أولى خطوات إختبارها ، نصطدم مباشرة بالكثير من التناقضات ،ونرصد خرقا جسيما لما تضعه الداروينية لنفسها من آليات وإلزامات وقواعد داخل إطار الإستدلال العام على التطور (وهذا ليس مستغربا ) ، ولكن على الرغم من ذلك لا تيأس من البحث عن مبررات لتخطيها وتقع أغلبها تحت إطار الحجج الدائرية ، أو المسكنات الموضعية للإشكالية ، أو ما يمكن تسميته بمبررات الإستهلاك المحلي ، فحين ننظر فى محاذاة عيون الأنواع العائشة من البسيط الى الأكثر تعقيدا لتبرير تطور العين نجد أنها تناقض شجرة التطور (الفيلوجينية) التي تم رسمها ،
على سبيل المثال : تخبر الداروينية بأن أسلاف الرخويات قد إنشقت عن الفقاريات خلال عصور سحيقة من تاريخ الحياة فى عصر ما قبل الكمبري Precambrian ، مما يجعل البشر أكثر إرتباطا بنجم البحر، وديدان الأرض عن إرتباطهم بالاخطبوط (من الرأسقدميات ) وبناءا على ذلك فمن المفترض أن نرى العيون البسيطة البدائية في السلسلة متواجدة بالاخطبوط ،لكن من الحقائق المثيرة للدهشة أن الاخطبوطات بالرغم من إنحدارها في أسفل سلسلة التطور، إلا أنها تمتلك ذلك النوع من نظام الرؤية شديد التعقيد والمعروف بعيون الكاميرا الذي يميزنا نحن البشر، و العجيب هنا أن التشابه بين عيون الإنسان والأخطبوط رغم المسافة التطورية الشاسعة بين كلا النوعين يبدو متطابق فى التراكيب على نحو مذهل .
هذه القفزة الهائلة فى تشكل العين عبر سلسلة المحاذاة لا يمكن تفسيرها بالإنحدار من أي سلف مشترك وتقف مباشرة فى وجه السيناريو التطوري الذي يستدل بتدرج نماذج العيون الحالية كتمثيل لأسلافها ، وكالعادة لا يمكن لأنصار التطور تحمل تبعات فرضياتهم فنجدهم يتملصون منها بالمجادلة حول كون كل من الأخطبوط والإنسان أبناء عمومة من سلف قديم جدا عاش في عصور ما قبل الكمبري ولا يمثل أحدهما سلفا للأخر ،و تلك البنية المعقدة والمتطابقة فى نظام الرؤية بين كلا النوعين قد تطورت بمعزل عن بعضها البعض بطريق تطوري تقاربي convergent evolution .
(6)وهذا الرد هو ما يعنينا الآن من طرح المثال السابق وعليه نتساءل : إن كانت الكائنات العائشة لا يمكنها أن تمثل الأسلاف ولا تعبرعنها ، فلماذا يحتج أنصار التطور بمصفوفات كائنات حية حالية لتبرير تسلسل تطور العين !.
بتخطي هذا النهج المعيب نتحول الى محور تناولنا والذي يتعلق بتلك الاشكالية الكبرى التي تتعامى عنها الدراوينية وهي ألية هذا التحول المطلوب لإنتاج ذلك الجهاز المعقد(العين) .
فحدوث كل طفرة متتابعة في الحمض النووي داخل مقلة العين يتطلب تحولات جذرية ومتزامنة وشديدة التعقيد والترابط داخل بنية العظام ، والأعصاب ، ووظيفة الدماغ ، ويجب سلوك مئات من المسارات التطورية فى ذات الوقت عن طريق طفرات فاعلة في جميع الجوانب المتعلقة بالرؤية ، ومثل هذه التغييرات تتطلب أكثر بكثير مما يمكن توقعه من الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي. (13)
ولتقريب مدى صعوبة تلك العملية بإتخاذ مقياس واحد فقط هو عدد الجينات المسؤولة عن إنتاج العين، نجد أنه قد تم التعرف حتى الآن على 501 من الجينات المرتبطة بالعين في تلك الحشرة البدائية (ذبابة الفاكهة) ، أي ما يعادل 3.5٪ من حجم جينومها بأكمله،
وفى الكائنات الأكثر تعقيدا مثل الفقاريات نجد أن أكثر من 7500 جين يتداخل فى تركيب وتنظيم شبكية العين أي حوالي 30٪ من الجينات البشرية قاطبة ، و من ذلك فحدوث طفرات متزامنه على هذا العدد الهائل من المسارات والجينات هو فرضية مريعة تتخطى حدود المنطق وتتزايد مع مستويات التكامل الارقى بين أجزاء تشكل العين ، وحتى على المستويات التكوينية الاقل تدرك الداروينية تلك المشاكل الخطيرة فى وضع تفسير لتطور كل جزء من نظام الرؤية، بما في ذلك العدسة، ومقلة العين، وشبكية العين، والنظام البصري بأكمله، وفصوص القذالي في الدماغ، (14)
مثل هذا التكامل والتنظيم أدى بالخبير تيرنر أن يسمى عملية الرؤية بالمعجزة ويقول بأن معجزة [الرؤية] الحقيقية تكمن في تلك العملية الحسابية التي يمكن أن تنتجها ‘(15) فكل هذه الأنظمة المختلفة يجب أن تعمل معا كوحدة متكاملة لتحقيق الرؤية، ويتعجب جراس فى بحث خاص يدرس أعضاء أقل تعقيدا فى تشريح أسد النمل ويتساءل حول إمكانية إنتاج مثل هذه النظم المعقدة بواسطة الإنتقاء الطبيعي لطفرات عشوائية و فرص حدوث مثل هذه الطفرات المتزامنة التي يمكنها أن تفعل ذلك و جدوى هذه الطفرات فى انتاج الهياكل التي تلائم بعضها البعض بدقة (16)
من المؤكد أن مثل تساؤل جراس سيلاقى طريقا مسدودا ، فحتى أبسط نظم الرؤية وأكثرها بدائية (البقع الحساسة للضوء) والتي استخدمت كحلقات أولية فى سلسلة التطور تتطلب وجود مجموعة كبيرة ومعقدة من النظم الانزيمية في المكان والوقت المناسب لكي تعمل ، وهى بحد ذاتها تعقيد لا يصدق ونظام لا يمكن إختزاله ،وعندما إتخذ داوكينز وغيره من أنصار التطور البقعة الحساسة للضوء كبداية للصعود نحو سفح الجبل فقد وقع فى مغالطة منطقية بسبب تعقيدها الهائل وبذلك فرحلته نحو القمة محكوم عليها بالفشل لأنه ابتدأ من القمة وهوى مباشرة نحو الهاوية.
على صعيد الجسم البشرى يشير الدكتور جوزيف كوهين Joseph A. Kuhn فى ورقة نشرت مؤخرا من (جامعة بايلور. المركز الطبي) بعنوان تشريح الداروينية إلى أن الكثير من الاطباء من خلال دراستهم للتعقيد الهائل للجسم البشري، يمكنهم تقبل حدوث إنتقاء لبعض الطفرات التي تعمل على مقاومة الملاريا، وخصائص الجلد، والعديد من التغييرات الطفيفة الأخرى لا يمكنها تحويل النوع. ولكن مثل هذه الطفرات لاتقدم أي تفسير حقيقي حول منشأ وتشكيل الأجهزة والنظم المعقدة فجميع عناصر النظم الحيوية تقريبا يجب أن تكون موجودة في وقت واحد بدلا من أن تتطور تدريجيا فيما أسماه نظام كل شئ او لا شئ ”all-or-nothing “ .
الذوق،وغيرها من الأمثلة على المستويات البيوكيمائية والتشريحية ووظائف الأعضاء.
يشير كوهين الى أن الداروينية لا يوجد لديها تفسيرات فعلية لأصل النظام المعقد الذي لا يمكن إختزاله ، ناهيك عن شبكة مترابطة من الأنظمة غير القابلة للاختزال التي تشكل جسم الإنسان ككل .وبالتالي فجسم الإنسان يمثل نظام معقد لا يمكن إختزاله على النطاق الخلوي والاجهزة والنظم. (17
التعقيد الغير قابل للإختزال
يستعرض مايكل بيهي Michael Behe أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ليهاي – بنسلفانيا وأحد منظري التصميم الذكي من خلال كتابه الشهير صندوق داروين الأسود ” Darwin’s Black Box:The Biochemical Challenge to Evolution ” طبقة أخرى من النظم الغير قابلة للإختزال على المستوى البيوكيمائي الجزيئي فى الحياة المجهرية الدقيقة .
ويعرف بيهي النظام الغير قابل للإختزال Irreducible complexity بأنه نظام مركب من العديد من الأجزاء التي تتفاعل بتناسق شديد لإنتاج الوظيفة المخولة بالنظام ويتبع ذلك أن إزالة جزء واحد من أجزائه يعطل هذا النظام ويوقفه عن العمل ، مما يعني أنه قد تم تصميمه من البداية مع جميع أجزائه ، وبذلك لا يمكن أن يتكون نتاجا لطفرات طفيفة متدرجة يتم إنتخابها، فالتطور لا يمكنه بناء عمليات بيو كيميائية معقدة خطوة بخطوة لأن تلك الخطوات لا يمكنها توفير أي ميزة لحاملها, وهذا يعني أن الانتقاء الطبيعي لن ينتقي هذا النمو التطوري ولن يسمح لنظام غير كامل وغير فعال بالانتشار من جيل لآخر فهو لا يثبت سوى التغيرات الوظيفية وهو ما تفتقده تلك النظم التي لا تعرف وظيفتها الا بوجودها مكتملة.
يستخدم بيهي مصيدة الفئران كمثال تقريبي لشرح فكرته حول التعقيد غير القابل للاختزال، فهي لا يمكن أن تعمل إذا فقدت أيا من أجزائها المكونه من القاعدة ، الزنبرك ، الماسك ، المطرقة ولا يكفي وجود كل الأجزاء فى الوقت والمكان المناسبين بل يجب أن تكون متناسقة مع بعضها بدقة حتى يمكنها القيام بوظيفتها مما يجعل من فرضية الفرص العشوائية محض جنون .
وإذا ما فقد أي جزيء في هذه السلسلة من قطع الدومينو أو كان معيبا لا يمكن بث النبض العصبي مما يعنى ببساطة إنعدام الرؤية والعمى التام . ومن ذلك فهذا النظام لا يمكنه العمل على الإطلاق ما لم تكن كل أجزائه حاضرة فى ذات الوقت .
والمثال الثالث: هو سوط البكتيريا flagellum الذي يبدو مثل خيوط خارجية طويلة تساعد على دفع
البكتيريا وتمكنها من السباحة والحركة خلال السائل المحيط بها، يتحرك السوط بألية ميكانيكية تماما فعند قاعدة كل سوط محرك دوار يحركها آلاف المرات في الدقيقة الواحدة.
يحاكى السوط البكتيري أنظمة الحركة الميكانيكية بوسائل النقل المائية بألية الدفع اللولبي بواسطة محركات دوارة التي لا يمكنها العمل مع فقد أحد أجزائها ومثل هذا النظام لا يقبل التدرج فى التكوين ، فالتطور بطريق الانتقاء الطبيعي والطفرة يجب فيه المضي الحثيث نحو تحسين وظيفية واحدة في كل خطوة،، فكيف يمكنه بناء جهاز لا يمكن إختزال خطواته مثل المحرك الدوار الذي لا يمكن أن يعمل على الإطلاق الا إذا كانت جميع أجزائه في مكانها الصحيح؟
في عام 2005 أقامت منظمة الدفاع عن حريات المواطنين الأمريكية”American Civil Liberties Union” بالاتفاق مع إحدى عشر أسرة ممن يتعلم أبناؤهم في مدارس منطقة دوفر التابعة لولاية بنسلفانيا دعوى قضائية ضد المجلس التعليمي للمنطقة . (19)
وكان السبب وراء ذلك هو أن مجلس التعليم في مدينة دوفر قد قرر دعوة الطلاب من خلال بيان مقتضب يتلى عليهم لدقيقة يعرفهم على “مبدأ التصميم الذكي” لتفسير الحياة بجوار نظرية التطور بالإشارة الى بعض الكتب فى مكتبة المدرسة ، وإنطلقت حيثيات تلك الدعوى بأن التصميم الذكي ينطلق من أسس دينية و تدريسه في المدارس العامة يخالف حقوق الدستور (التعديل الأول ) الذي نص على فصل الدين عن الدولة.
كيت ميلر Kenneth Miller هو أحد الشهود الخبراء ممن إستعان بهم الإدعاء فى القضية وظهر مايكل بيهي Michael Behe الشاهد الخبير للدفاع .وأثناء إستجواب ودي طرحه عليه الإدعاء ، أكد ميلر أن نظرية التصميم الذكي “ليست قابلة للإختبار” وبذلك فهي ليست من العلم فى شئ ،ولكن في وقت لاحق أثناء شهادته يناقض ميلر إدعائه هذا ويثبت أنها نظرية قابلة للإختبار حين جادل أن العلم قد إختبر حجة النظام الغير مختزل وأثبت زيفها .
بالتغاضي عن تناقض ميلر الذي لم ينتبه إليه القاضي أو المحلفين فى حينه ، لنرى كيف أثبت زيف حجة بيهي حول التعقيد الذي لا يمكن إختزاله:
يمكن للمطلع بسهولة أن يدرك أن ميلر إرتكز خلال شهادته وفى كتاباته العديدة على تشويه الحجج وطرح تعريف مضلل للنظام الغير قابل للاختزال ومن ثم يقوم بدحض هذه الفكرة المضللة والمشوهة التي صنعها بنفسه مرتكبا بذلك حيلة منطقية يجيدها تعرف بمغالطة رجل القش * (وضع مصدر وتعريف بمغالطة رجل القش فى الهامش(20).دلس ميلر فى تعريف النظام الغير قابل للإختزال بإدعائه بأن حجيته تكمن فى كون الأجزاء المكونة له لا تحمل أي معنى وظيفي خارجه ، وبذلك يمكن تفنيده إذا ما تم العثور على وظيفة ثانوية لهذه الاجزاء فى نظم أخرى، ويستخدم مثال بيهي “مصيدة الفئران ” للبرهنة على ذلك بنزع أحد أجزائها وإستخدامها كدبوس لرابطة العنق ، ومن ذلك يدعي أن مفهوم التعقيد غير القابل للإختزال فى السوط البكتيري قد تم دحضه لأن ما يقارب ¼ البروتينات المستخدمة فى وظيفة سوط البكتيريا تقوم بوظائف فى نظام أخر في أنواع بكتيرية مختلفة هو “آلة حقن السم وتسمى (نظام إفرازي النمط-III،أو T3SS) ، مما يدل على أن السوط البكتيري من الممكن أن يتطور تدريجيا من نظام آلة الحقن الأقل تعقيدا . (21)
للتعريف بخدعة ميلر وتدليسه فى إختبار النظام الغير مختزل نضرب لكم هذا المثال :
- بما إننا قد وجدنا أن كلا من جهاز الكمبيوتر والموقد الكهربائي لديهما سلك الطاقة المسئول عن توصيل التيار الكهربائي ، إذن نستنتج من ذلك أن جهاز الكمبيوتر لم يعد تعقيدا غير قابل للإختزال. وذلك لأن الكمبيوتر يتطلب عددا من قطع الغيار اللازمة من أجل وظائف ثانوية فى أجهزة أخرى.
في مقالة نقدية نشرتها خدمة التصميم الذكي لكيسى لوسكن Casey Luskin حول مجريات وأحداث محاكمة دوفر يضع مقاربة تصويرية رائعة لمنطق ميلر السابق ممثلا فى تفسير التعقيد الغير إختزالى من خلال شكل القوس . لمطالعة المقالة كاملة (22)
من خلال الرسم السابق نطرح سؤالا :
هل فسر أو دحض وجود الجزء القاعدي (s ) من القوس التعقيد الغير قابل للإختزال للقوس ؟
بالطبع لا.واذا قمنا بتمثيل القطعة (s) بقاعدة إبرة الحقن T3SS ،فكونها مشتركه مع السوط لم يدحض التعقيد الغير قابل للإختزال فى تركيب السوط ويفشل تماما فى تفسيره ،
والإختبار الحقيقي الوحيد الذي يمكنه دحض هذا النظام هو إظهار قدرة الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي على بناء هذا النظام تدريجيا خطوة بخطوة كما إشترط داروين ، فبروتينات نظام حقن السم T3SS المشتركة مع السوط البكتيري لا تمثل أكثر من وظيفة المساهمة فى تثبيت كلا منهما في غشاء الخلية ولا تساهم فى الوظيفة الغير اختزاله للسوط :
إذا ضربنا مثال أكثر ملائمة وقمنا بتشبيه السوط البكتيري بمحرك دفع خارجي لقارب ونظام الحقن T3SS كرشاش مياه ، وحتى نستطيع تثبيت كليهما على ظهر القارب (الذي يمثل بدوره جسم البكتيريا ) يتوجب علينا إستخدام قاعدة تثبيت(البروتينات القاعدية المشتركة)،ومنه يمكننا القول إنه من السذاجة الاستنتاج بأن وجود جزء التثبيت القاعدي فى رشاش الماء دليلا على نفى التعقيد الغير مختزل فى تركيب المحرك الخارجى، و يمكن إعتبارهذه الحجة في أحسن الأحوال مثل القول أنه بإمكاننا السفر سيرا على الأقدام من لوس أنجلوس إلى طوكيو لأننا اكتشفنا جزر هاواى “بتشبيه ويليام ديمبيسكي ”. (23)
لتتمكن الداروينية من وضع إختبار حقيقى حول تفسير أصل آلة جزيئية متكاملة غير قابلة للإختزال وظيفيا يتوجب عليها تتبع الخطوات والشروط الاتية التي تم تلخيصها وفقا لمنيوج Angus Menuge :
- أولا : توافر وإتاحة كل الأجزاء اللازمة لتشكيل النظام المطلوب .
- ثانيا : تموقع الأجزاء فى موقع البناء فى الوقت الذي يتطلب وجودها فيه .
- ثالثا : التنسيق والتوافق لتلك الاجزاء فى الوضع الصحيح لملائمة التركيب فى النظام وفقا للتوقيت والمكان المناسبين لتتفاعل بشكل صحيح داخل النظام . (24)
إدعى ميلر زورا أن بيهي قد إفترض عدم وجود وظيفة ثانوية لأجزاء النظام فى تراكيب أخرى والتي يمكنها بحسب إدعائه أن تتكيف فيما بعد لانتاج النظام الجديد وأطلق عليها فرضية الخيار المشترك Co-option أو التكيف المسبق exaptation الذي تم اصطلاحه للتعبير عن الخصائص التي تظهر في سياق وظيفي ما ، قبل أن يتم إستغلالها فى سياق آخر؛ حيث يمكن لسمة معينة كانت تخدم وظيفة بعينها، أن تتحول في وقت لاحق لوظيفة أخرى.
ومن الامثلة الشهيرة للتكيف المسبق هو ريش الطيور. الذي تفترض الداروينية وجوده لتدفئة الحيوانات قديما قبل ان يتكيف كعامل رئيسي فى الطيران ، ومثل هذه القصص من السذاجة بمكان بحيث يمكنها أن تصلح فقط كقصص ما قبل النوم التي كانت تحكيها لنا الجدات. فالريش بشكله الحالي وجد خصيصا بتركيب وتوزيع ليساعد على الطيران وكونه يحمل وظيفة أخرى تفيد في العزل والتدفئة لا يعني بالمرة انه تكيف من هذه الوظيفة تماما كما لا يعني وجود جيوب بمعطف التدفئة نضع بها متعلقاتنا بأن المعطف الشتوي قد صنع فى البداية للإحتفاظ بالمتعلقات ومن السذاجة بمكان ربط تطور الطيران بوجود الريش فالخفاش يمكنه الطيران بدون ريش كما تفعل الفراشة ويفعل اليعسوب وإن إحتاج الحيوان ليصبح طائرا فلن ينفعه زغب التدفئه فى تطوير تلك الخاصية ومثل تلك الطرق الاستدلالية تقع تحت إطار مغالطة الهجوم على رجل القش .
ومن ذلك المنطلق فقد وضع القاضي جونز فى حيثيات حكمه أن بيهي كان جاهلا بالية التكيف المسبق لتفسير تحول الوظيفة ، والحقيقة أن القاضي جونز هو من يجهل تماما مثل هذه القضايا المتخصصة فبيهي تناول هذه الحجة تفصيليا من خلال كتابه (صندوق داروين الاسود )حين تكلم عن كيفية إستخدام مجموعة من القطع التي تمتلك وظائف ثانوية فى نظم أخرى كما فى تطور أهداب الحركة فى البكتريا، وشرح ذلك من خلال مثاله الشهير مصيدة الفأر حين أشار الى فرص تكوين تلك الالة من مهملات المرئاب التي كانت تستعمل لاغراض أخرى سابقة ، فقطعه خشبية يمكن استخدامها كثقالة أو لأي غرض آخر ونابض مستخدم فى ساعة قديمة مهملة وغيرها من أجزاء تشكيل المصيدة ، ويشرح بيهي ان الاشكالية الحقيقية تكمن فى إدخال مثل هذه الاجزاء فى نظام وظيفي جديد وحاجاتها الى سلوك مجموعة من التعديلات الملتوية بالغة التعقيد وفيها ينعدم الدور المخول للإنتقاء الطبيعي تماما وهذا هو سر فعالية الحجة . فحتى مع توافر جميع الأجزاء الضرورية المطلوبة كالقاعدة،النابض،عصا توقيف ، فإنه يتوجب عليها أن تتوائم مع بعضها بدقة والا فالمصيدة ستكون فاشلة ولن تعمل .
أنصار التطور يدركون جيدا حجم الإشكالية ومن ثم يجادلون فى إستنادهم على حجة التكيف المسبق بأن النظم الحيوية المعقدة التي تبدو غيرقابلة للاختزال يتم بنائها بطرق غير مباشرة بعملية تشبه عملية التسقيل (دعم بسقالات) والتي يمكنها المساعدة فى رفع البناء وإيصال المكونات إلى مكانها فى النظام حتى يكتمل ومن ثم يتم إزالة هذه الأجزاء (السقالات) .
أي قانون طبيعي بلا هدف يمكنه أن يوجه تلك الأجزاء (بعملية التسقيل المزعومة) إلى موقعها المطلوب في الزمن المطلوب بالتناسق المطلوب وما هي فرص حدوث مثل هذا الحدث ، ومن ناحية أخرى فالاستناد الى مثل هذا التشبيه مرتد علي صاحبه فعملية البناء بالتسقيل للأبنية المعقدة بالقياس هي عملية غائية ذكية نتاج توجيه هندسي محكم وليست عشوائية حيث تتطلب دقة متناهية فى توجيه السقالة فى مكان محدد ونزعها فى توقيت دقيق .
دعونا لا نستبق فى الحكم ونتوجه مباشرة لإختبار هذه الفرضية ونضع نموذجا افتراضيا لالة جزيئية تتألف من مكونات البروتين A، B، C، D والتي تتفاعل مع بعضها لتنتج الوظيفة البيولوجية المخولة بتلك الآلة البيولوجية.
هذه الأجزاء البروتينية تتفاعل مع بعضها بتكامل دقيق للغاية يحدده أشكالها ثلاثية الأبعاد التي يتم تعشيقها لتتآلف وتتعاون لإنتاج الوظيفة المخولة بالنظام النهائي حيث يتوجب على بروتين يمتلك شكل به نتوءات معينة أن يقابله بروتين أخر يمتلك شقوقا متكاملة معها تماما ،
سيناريو التكيف المسبق يحملنا على الاعتقاد بأن أجزاء الآلة من A إلى E كانت تعمل أصلا في سياقات مختلفة، وتشكلت كل واحدة منها بصورة مستقلة عن طريق الانتقاء الطبيعي .
ومن ثم إجتمعت هذا الاجزاء لتتكامل فى الوظيفة الجديدة، ولكن في خطوة التكامل هذه ينعدم تماما دور الانتقاء الطبيعي ويبقى العامل الوحيد المتحكم فى تكامل هذه الاجزاء داخل النظام الجديد هي الصدفة وحدها فليس هناك شيء في الانتقاء الطبيعي من شأنه الدفع نحو موائمة اشكال البروتينات لبعضها البعض ومن المهم أن نتذكر ما شرحناه مسبقا بأن التطورغير غائي ولا يوجد لديه بعد نظر، على عكس المهندس الذي يتحرك وفق خطة إنشائية مسبقة ويضع السقالات فى المكان الملائم ليرفع أجزاء البناء لتتكامل في نهاية المطاف ، ومن غير المعقول تماما أن نتوقع أن تلك العمليات الغير غائية يمكنها خلق هذه البروتينات فقط في الطريق الصحيح لتتوائم بدقة متناهية فى الشكل والتموضع لإداء الوظيفة الكلية للنظام .فكما يشير كل من Scott .Minnich و Stephen .Meyer أنه حتى مع توافر البروتينات اللازمة لتكوين السوط البكتيرى الدوار فإنها يجب أن تترتب وفقا لتسلسل زمنى صحيح تماما كما يتم تركيب السيارة أثناء خطوات تصنيعها، ومن أجل حدوث ذلك فإنها بحاجه الى نظام إنشائي مسبق من الشفرات والتعليمات الجينية وأدوات التجميع والتركيب المتمثلة فى الات جزيئية من البروتينات المتخصصة لمهة ترجمة تلك التعليمات وتنفيذها.(25)
______
للمزيد حول التكيف المسبق تابع الطرح التالي :
مما لا شك فيه أن فكرة عداء العلم للدين فى الغرب تعود بقسم كبير منها الى ذلك الإرث الكنسي اللاهوتي القديم المغرق فى السطحية الذي وضع برهانا خاطئا على وجود الله ينحصر في نوع من المعجزات مرتبط بما لا نستطع تفسيره ،وكان تبني تلك الفكرة المهينة بأن الله لا يتواجد الا فى الجزء غير المفسر من العالم بمثابة الحبل الذي لفه اللاهوتيون حول أعناقهم ،ومن ثم كانت الفرصة الذهبية لتنهي العلمانية المهمة بسهولة وتركل الكرسي من تحت أقدام اللاهوتيين .
وعليه لا يمكننا تشديد اللوم على المادية في إصطلاحها المشهور “إله الفجوات المعرفية ” .
ولكن في المقابل من ذلك نجد أنه من الاهمية تصحيح المفاهيم وإعادة توجيه التوصيف الي مساره ،فتغييرالفكرة السائدة حول مرض الصرع ومعرفة أسبابه وتصحيح الفكرة التي سادت حوله بإعتباره تلبس بروح شريرة وأن علاجه يكمن فى استجلاب معجزات الهية بالصلوات في الحقيقة لا يعتبر هدما للإله وإنزواء لدوره في مقابل الحل المادي بقدر ما يمكن اعتباره هدما للفكرة الخاطئة التي تبناها اللاهوتيون حول دور الله وتوظيفه بالخطأ ، والذي إعتمد على الإلتجاء الى نوع من التواكل وعدم السعي لمعرفة الاسباب وتتبعها ، ومن ذلك ظلت العلمانية تكسب جولات زائفة بتراجع دور الاله بذلك المفهوم ، لكنها في الحقيقة لم تجابه الا رجل القش الذي ساهم في خلقه هذه المرة اللاهوتيون أنفسهم . فنجاح المادية في تفسير كيفية عمل الآلة المعقدة التي كانت تبدو من قبل ذلك للبعض كالسحر والمعجزة، لايمكنه أن ينفي وجود صانع لتلك الآلة ويرجع الامر برمته الى القوانين الطبيعية مدعيا قدرة تلك القوانين على صنعها ،بل على النقيض من ذلك من ذلك يجب أن يزيد يقننا في قدرة الصانع وبراعته ويؤكد قناعتنا بحتمية التصميم الحكيم .
ومن جهة أخرى فإن الفجوات المعرفية المحيطة بقضية ما ،(على فرض صحتها) يتوجب عليها أن تعطي لدى الباحث المحقق إنطباعا من الحيادية أو اللاأدرية بخصوص تلك القضية وعدم إستباق الأحكام حولها ، لكن فى الوقت الذي يدعي فيه أنصار المادية إستعانة المعارضين بإله الفجوات لسد تلك الثغرات المعرفية ، فإنهم في المقابل يسدونها بإله آخر هو الصدفة العشوائية وينصبون التفسير المادي الطبيعي ليقعوا تحت نفس اطارالاتهام (سد الثغرات بإله الفجوات ) .
ولكن الحقيقة علي غير ذلك، فهذه النظم تبدي علامات التصميم الحكيم التي يستحيل تفسيرها من خلال عمليات طبيعية عشوائية،فمن خلال قياسا بسيطا يمكننا إدراك تلك الحقيقة : لو وجد شخص ما كوخا حجريا مثقولا وسط الجبال، سيستنتج أنه تم صنعه بفعل مصمم . لكنه أيضا لن يبرر بنفس الادعاء إذا وجد قطعا صخرية عشوائية الشكل ومن نفس الحجم .
فالتعقيد المتخصص نظام لا يكتفي بالتعقيد العشوائي بل بتخصص التعقيد لأداء أدوار ومهام محددة ويستخدم ديمبسكي المثال التالي:
- الحرف الأبجدي هو متخصص دون كونه تعقيدا.
- جملة طويلة من الأحرف العشوائية هي تعقيد دون كونه متخصصا.
- قصيدة لشكسبير هي تعقيد متخصص“
- “بإرجاء الحياة إلى قوانين الفيزياء أو الكيمياء نراها تبدو مثل السحر ، إنها تتصرف بطرق غير عادية لا مثيل لها في أي نظام فيزيائي أو كيميائي أخر ،ولكنها تحمل خصائص نابضة بالحياة تتميز بالإستقلالية والقدرة على التكيف والسلوك الموجة نحو الأهداف وتسخير التفاعلات الكيميائية لتمرير أجندة مبرمجة مسبقا، بدلا من أن تكون عبدا لتلك التفاعلات “.(29)
” نعرف الآن أن سر الحياة لا يكمن في المكونات الكيميائية على هذا النحو، ولكن فى البنية المنطقية والترتيب التنظيمي للجزيئات ، فالحياه هي نظام معالجة المعلومات. و برنامج الخلية الحية هي السر الحقيقي ، وليست الأجهزة ‘. ولكن من أين أتت البرنامج ؟ ، كيف لذرات غبيه بشكل عفوي كتابة البرامج الخاصة بها ؟ .لا أحد يعرف … ‘.(30)
” نظام الترميز يستلزم دائما عملية عقلية . النهج الفيزيائي لا يمكنه أن ينتج رموز المعلومات. تظهر جميع التجارب أن كل قطعة من المعلومات الإبداعية تمثل بعض الجهد العقلي “.(31)
“الحمض النووي هو رمز المعلومات. . . . الاستنتاج القطعي هو أن هذه المعلومات لا يمكن أن تنشأ تلقائيا من خلال عمليات ألية ’ . الذكاء ضرورة في الأصل لأى رمز معلوماتي ، بما في ذلك الشفرة الوراثية، .” (32)
- الكائن الحي ليس تراكمات مجردة لمجموعة من المفردات وإنما نظام دقيق متكامل لا يقبل الإختزال والتطور التدريجي .
- يتحكم فى سيرورة هذا النظام (برنامج معلوماتي) إنشائي وتشغيلي مسبق يمثل نوع من التعقيد المتخصص.
- البرنامج المعلوماتي يستحيل تفسير وجودة بالنهج الفيزيوكيميائي والقوانين الطبيعية وإنما هو نتاج حتمى للتصميم الحكيم كما أتثبت التجارب والدراسات في هذا الشأن .
أحمد يحيى
المصادر:
- Charles Darwin, “The Origin of Species”, Harvard University Press, 1964, p. 189.
2- Ernst Mayr, “This Is Biology: The Science of the Living World”, Harvard University Press, 1998.
3- David Quammen, “The Reluctant Mr. Darwin: An Intimate Portrait of Charles Darwin and the Making of His Theory of Evolution (Great Discoveries)”, W. W. Norton 2006.
4- Charles Darwin, “The Origin of Species”, Harvard University Press, 1964, p. 190.
5- “the crucial importance of this requirement to the theory of evolution was fully understood by Darwin, who stated that, in searching for the gradations through which an organ in any species has been perfected, we ought to look at its lineal progenitors. Indeed we ought; though he himself could not do so. It is deceptive to the reader to create a seriation beginning with eye spots as seen in unicellular organisms and call them, as does Duke-Elder (1958), the earliest stage of evolution.”
- Cousins, F.W., “The Anatomy of Evolution, Duffett Publications”, London, p. 125, 2003.
6- Atsushi Ogura. et al, “Comparative Analysis of Gene Expression for Convergent Evolution of Camera Eye Between Octopus and Human”, Genome Res. 2004.
<genome.cshlp.org/content/14/8/1555.short>
7- Fernald, R.D., “The evolution of eyes”, Brain, Behavior and Evolution 50 (4):253, 1997.
8- Frank Salisbury, “Doubts About the Modern Synthetic Theory of Evolution”, American Biology Teacher, September 1971, p. 338
9- Fernald, R.D., “Eyes: variety, development and evolution”, Brain, Behavior and Evolution 64(3):141–147, 2004; p. 1917.
10- Croft, L.R., “The Last Dinosaurs”, Elmwood Books, Chorley, Lancashire, p. 57, 1982.
11- Land, M.F. and Nilsson, D.-E., “Animal Eyes”, Oxford University Press, New York, p. 1, 2005.
12- Duke-Elder, S.S., “System of Ophthalmology. Volume 1: The Eye in Evolution”, The C.V. Mosby Company, St. Louis, p. 237–238
13- Breidach, O. and Kutsch, W., “The Nervous Systems of Invertebrates: An Evolutionary and Comparative Approach.” With a coda written by T.H. Bullock, 1995.
14- Fernald, R.D., “Casting a genetic light on the evolution of eyes”, Science 313:1914–1918, 2006; p. 1914.
15- Turner, J.S., “The Tinker’s Accomplice: How Design Emerges from Life Itself”, Harvard University Press, Cambridge, MA, p. 161, 2007.
16- “Have you ever seen a mutation simultaneously affecting two separate components of the body and producing structures that fit one another precisely? … have you ever beheld three, four or five simultaneous mutations with matching structures producing coordinating effects? … These are vital questions that demand an answer. There is no way of getting around them, or evading the issue. Every biologist who wants to know the truth must answer them, or be considered a sectarian and not a scientist. In science there is no “cause” to be defended, only truth to be discovered. How many chance occurrences would it take to build this extraordinary creature [Myrmelion formicarius]’?”
- Grassé, P.P., “Evolution of Living Organisms”, Academic Press, New York, NY, p. 163, 1977.
17- Joseph A. Kuhn, “Dissecting Darwinism”, Proc (Bayl Univ Med Cent). Jan 2012; 25(1): 41–47.
18- Michael Behe, “Darwin’s Black Box: The Biochemical Challengue to Evolution”, 10th ed. (2006) Free Press, New York.
19- TAMMY KITZMILLER, et al. v. DOVER AREA SCHOOL DISTRICT, et al. – Case No. 04cv2688 – Middle District of Pennsylvania Court.
20-
عادل مصطفى، “المغالطات المنطقية“، المجلس الأعلى للثقافة 2007 ص 163.21- Dr. Kenneth Miller Testimony, Day 1, PM Session, page 16.
22- Casey Luskin, “Do Car Engines Run on Lugnuts? A Response to Ken Miller & Judge Jones’s Straw Tests of Irreducible Complexity for the Bacterial Flagellum.”, CSC – Discovery Institute, April 19, 2006.
<discovery.org/a/3718>
23- Dembski, Rebuttal to Reports by Opposing Expert Witnesses , p 52.
<designinference.com/documents/2005.09.Expert_Rebuttal_Dembski.pdf>
24- Angus Menuge, “Agents Under Fire: Materialism and the Rationality of Science”, p 104-105, Rowman & Littlefield, 2004.
25- Scott A. Minnich y Stephen C. Meyer, “Genetic Analysis of coordinate flagellar and type III regulatory circuits in pathogenic bacteria”, Discovery Institute p 8.
<discovery.org/scripts/viewDB/filesDB-download.php?id=389>
26- Dan Jones, “Uncovering the evolution of the bacterial flagellum,” New Scientist (Feb 16, 2008).
27- Dembski. “Intelligent Design”, p. 47
<designinference.com/documents/2003.08.Encyc_of_Relig.htm>
28- Dembski, (ed.) “Mere Creation: Science, Faith & Intelligent Design.”, Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 1998, 209-213.
29- “To a physicist or chemist life seems like ‘magic matter,’” Davies explained. “It behaves in extraordinary ways that are unmatched in any other complex physical or chemical system. Such lifelike properties include autonomy, adaptability and goal-oriented behavior — the ability to harness chemical reactions to enact a pre-programmed agenda, rather than being a
slave to those reactions.”
- Skip Derra, “ASU researchers propose new way to look at the dawn of life”, asu news Posted: December 12, 2012.
<asunews.asu.edu/20121212_dawnoflife>
30- a) Paul Davies, “The Origin of Life: Fifth Miracle”, Penguin UK.
b) New way to look at dawn of life, <sciencedaily.com/releases/2012/12/121212205918.htm>
c) Origin of Life Needs a Rethink, Scientists Argue, <livescience.com/25453-life-origin-reframed.html>
31- “A coding system always entails a nonmaterial intellectual process. A physical matter cannot produce an information code. All experiences show that every piece of creative information represents some mental effort and can be traced to a personal idea-giver who exercised his own free-will, and who is
endowed with an intelligent mind.”
- Werner Gitt, “In the Beginning Was Information”, CLV, Bielefeld, Germany, pp. 107, 141
32- “DNA is an information code. . . . The overwhelming conclusion is that information does not and cannot arise spontaneously by mechanistic processes. Intelligence is a necessity in the origin of any informational code, including the genetic code, no matter how much time is given.”
- L. Lester and R. Bohlin, “The Natural Limits to Biological Change”, (Dallas, TX: Probe Books, 1989), p. 157