ينظر الناس للتجارب العلمية على أنها أكثر الأشياء المتقدمة روعة، والسبب أنها كذلك بالفعل، إنها السبب الرئيسي وراء وصولنا إلى حافة المعرفة الإنسانية والبدء في الدفع نحو الأمام سعيًا وراء المزيد من التقدم والمعرفة، إنها الوسيلة التي تميز العلم من الزيف والعالم من الكاذب، كما أنها وسيلة العلماء الأساسية للبحث عن إجابات. نستعرض سويًّا اليوم خمس تجارب وإنجازات علمية “ضخمة” تمكن البشر من تحقيقها بدون استخدام الحاسوب ودون استخدام أي مظهر من مظاهر التقنية حتّى ليكون هذا دليلًا على قوة البشر وعزيمتهم وإصرارهم مهما كانت بدائية أدواتهم أو بالية معداتهم وأن النجاح إنما يأتي كثمرة للعمل الدؤوب والشاق وأنه تاج لا يوضع سوى على رأس من سعى له سعيه واتخذ طريقه دربًا.
سرعة الضوء
الضوء من الأشياء الغامضة التي لطالما حيرت العلماء، ومن أجل الوصول لحقيقة أن الضوء له سرعة نهائية ثابتة يجب أن تواجه حقيقية أن كل شيء نراه اليوم في الكون كان ملتصقًا ببعضه وشيئًا واحدًا في الماضي، كما يجب أن تتعامل مع تعقيدات الفيزياء الجزيئية المختلفة. سرعة الضوء في الفراغ هي أيضًا حدود السرعة التي يمكن تحقيقها لأي شيء في الوجود، حتّى قوانين الفيزياء نفسها لا يمكن أن تتخطى سرعة الضوء في الفراغ. لو اختفت الشمس في هذه اللحظة ستستمر الأرض في دورانها لمدة 8 دقائق قبل أن تلاحظ اختفاء الشمس والبدء في رحلتها اللانهائية في الفضاء، Ole Roemer كان أول من تمكن من قياس هذا الحد الكوني في عام 1676 عندما كان أكثر مصادر الضوء تقدمًا هو المصباح الزيتي، باستثناء الشمس بالطبع والتي كانت ومازالت كما هي في كل لحظة من تاريخ البشر في الكون.
كان رومر يراقب ويلاحظ مدار القمر Io وهو أحد أقمار كوكب المشتري، ولاحظ أن وقت الكسوف يتغير كلما اقتربت الأرض أو ابتعدت عن الكوكب، وافترض أن الضوء لابد أن يكون له سرعة نهائية ثابتة وبدأ في تطبيق حساباته الرياضية على الملاحظات التي جمعها من النظام الشمسي، وكانت نتائجة مختلفة عن الواقع الذي نعرفه اليوم بنسبة 25% فقط وهو أمر مدهش حقًّا، لقد كان أول شخص يظفر بسرعة الضوء، قبل أن يبدأ نيوتن في نشر دراساته حول الميكانيكا الكلاسيكية حتّى.
عندما يحدق الآخرون إلى السماء، بعضهم يرى أشكالًا رائعة وبعضهم يرى أشياءً أخرى، إنما رومر فقد حدق في الكون إلى أن تلفظ إليه بحدوده العظمى، لقد تعامل مع أعظم الأحجيات العلمية والكونية اليوم ببضع عدسات مصنوعة من حبات الرمال المنصهرة. أصبح رومر بعد ذلك رئيس شرطة كوبنهاجن وأنشأ نظام إضاءة متكامل في شوارع المدينة بأكملها.
سرعة الضوء بعد ظهور الآلات
وتستمر محاولة قياس السرعة القصوى لسباق الواقع بطرق وأساليب جديدة منها دولاب فيزيو المسنن Fizeau’s toothed wheel، ومرآة فوكو الدوّارة Foucault’s rotating mirror وتجارب وأدوات أخرى مختلفة قد تبدو كأدوات سحرية من أحد أفلام الخيال، ولكن في عام 1924 ارتفع Albert A. Michelson بمستوى تلك المحاولات الميكانيكية لقياس سرعة الضوء من خلال قياسه لسرعة الضوء بين قمتين عظيمتين وهما قمتي Wilson و San Antonio.
جوهر التجربة كان يعتمد على عمود رأسي ثماني الأضلاع مغطى بالمرايا ويدور بسرعة عالية جدًّا، لذا فقد كانت تبدو هذه التجربة للناس مثل تجارب العلماء المهووسين الذين يحاولون السيطرة على العالم، خاصة أن عمود المرايا ذلك كان يستمد قوته من الهواء المضغوط ويصدر عنه صوت مرتفع ومخيف، وقد انفجر عدة مرات في المحاولات الأولية بسبب السرعات المرتفعة.
لقد كانت خطوات التجربة عبقرية للغاية، الضوء الناتج من قوس كهربي مرتفع الجهد يتم توجيهه إلى مرآة دوارة موجودة أعلى قمة Wilson وعند زوايا دقيقة ومحددة سيتم عكس الضوء نحو مرآة أخرى على قمة San Antonio وتحديدًا على بعد 35 كيلومترًا. هذا الضوء ينعكس مرة أخرى نحو قمة Wilson، وإذا كانت المرآة قد دارت بعدد لفات صحيح ومناسب خلال الوقت الذي استغرقه الضوء للعودة ستكون في موضع يسمح بعكس الضوء إلى موضع يمكن ملاحظته منه وعندما يتم ملاحظة هذا الضوء يمكن معرفة سرعة الضوء من خلال سرعة دوران المرآة الحالية.
تم ملاحظة الضوء عند سرعة 528 لفة في الثانية وبعد أخذ الظروف المحيطة بالتجربة في عين الاعتبار تم استنتاج سرعة الضوء عند 299,820 كيلومتر في الثانية والتي تختلف عن قياساتنا الحديثة فقط بـ 4 كيلومترات، وقد تمكن من ذلك فقط من خلال قوس ضوئي ومحرك وبعض المرايا الزجاجية.
شحنة الإلكترون
إذا أخبرتك أن تتخيل شخصًا يعمل في معمله على إيجاد القيم الذرية الأساسية للمادة ستتخيل مسارع جزيئات ضخم مثل مسارع سيرن وبالبطع لن تتخيل شخص معه بطارية وبعض الألواح المعدنية وزيت دهني مقطر. في عام 1909 عمل كل من Robert A. Millikan و Harvey Fletcher على إيجاد قيمة ثابت أساسي للمادة بنفس المعدات التي قد يستخدمها شخص ما لإصلاح تسرب في سيارته، مسحة من الزيت تم نثرها في غرفة صغيرة مفرغة بين لوحين معدنيين، بعض قطرات الزيت ستكتسب شحنة كهربية نتيجة الاحتكاك وهذه القطرات فقط هي التي سترتفع مرة أخرى نحو الأعلى متحدية الجاذبية الناتجة عن مجال كهربائي موجود بين اللوحين المعدنيين. من خلال ملاحظة هذه العملية عبر عدسات خاصة وإيقاف وتشغيل المجال الكهربائي بالتناوب تمكن القائمون على التجربة من قياس سرعة القطرات أثناء الصعود والهبوط وهذا بدوره مكنهم من قياس كتلة وشحنة كل قطرة على حدة، ثم قاموا بإعادة التجربة عشرات المرات وتسجيل القيم في كل مرّة ووجدوا أن شحنة القطرات تساوي دائمًا مضاعفات قيمة محددة، وهي قيمة الشحنة الموجودة على الإلكترون.
لقد تمكنوا من قياس قيمة ذرية باستخدام أدوات ملّيمترية، لقد تمكنوا من تعريف وقياس واحد من أهم الجزيئات الأساسية في الوجود من خلال التحديق به عبر بعض العدسات وتركه يتحرك صعودًا وهبوطًا، هذه تجربة من التجارب التي تفتقد مكانها في العنواين الرئيسية والأروقة العلمية، العلم ليس لحظة مفاجئة يصرخ فيها أحدهم بكلمة “وجدتها” وهو يهرول عاريًا في الشارع ولكنه ساعات العمل الشاقة التي يقضيها أحدهم مع معداته البدائية يبحث عن إجابة من خلال البحث والاستقراء والتفكير. وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ يعتقد الناس أنهم يمكنهم أن يتجادلوا حول العلم بنفس الطريقة التي يتجادلون بها حول علاقاتهم الشخصية أو السياسية أو الأمور الترفيهية الأخرى.
ثابت الجاذبية العام وكتلة الأرض
الجاذبية هي القوة الأضعف من بين القوى الأساسية الأربعة في الكون، ويتطلب الأمر في الغالب كوكبًا بأكمله لتتمكن من ملاحظتها، بعض المدرسين اعتاد في شرح تلك القوة الضعيفة على الإمساك بأي جسمين واخبار تلامذته ان “هناك قوى تجاذب بين هذين الجسمين ولكنكم لا تستطيعون رؤيتها، إنكم فقط لا تنظرون بالقدر الكافي” ونحن نتحدث هنا عن Henry Cavendish الذي يشتهر باكتشافة للهيدروجين الذي يملأ كوكبنا كله، بالإضافة للعديد والكثير من الاكتشافات التي ساهمت في تقدمنا في مجال الكهرومغناطيسية، ولكنه ببساطة لم يزعج نفسه بإخبار أحد سوى عن أول اكتشافين فقط، وتمكنا من معرفة الباقي عندما بحث العلماء الآخرون في ملاحظاته ومذكراته بعد مضي قرن من الزمان على موته واكتشفوا أنه كان يفضل عدم التحدث عن اكتشافاته لكي لا يزعج أحدًا.
معداته وأدواته الخاصة تم بناؤها لأول مرة بواسطة Rev. John Michell والذي لسوء الحظ توفي قبل أن يتمكن من إجراء التجربة، ومن هنا أخذ هنري على عاتقه استكمال المهمة، وبدأ في تطوير تلك المعدات والأدوات ليبدأ قياس وزن العالم من كوخه الصغير البالي. كانت تلك الأدوات تتضمن قضيبًا معدنيًّا معلق أفقيًّا من منتصفه بسلك معدني ملتوٍ وكرات كبيرة في نهاية القضيب منجذبة لكرات أخرى صغيرة على بعد 20 سنتيمترًا من نهاية القضيب. من خلال قياس شدة التواء السلك المعدني تمكن هذا العالم من قياس قوة الجذب بين الكرات، ومن خلال قياس تذبذ وتأرجح السلك تمكن من حساب ثابت التوتر للسلك ومنهما تمكن من الحصول على علاقة بين وزن الكرات وبين وزن كوكب الأرض، وفي النهاية تمكن من إيجاد كتلة الأرض وتحديد قيمة ثابت الجاذبية العام بأدوات وإمكانيات لا تتعدى قضيبًا معدنيًّا وبعض الكرات، وكل هذا قبل ظهور مظاهر تقنية، بل قبل ظهور المحرك البخاري حّتى.
التجربة كانت مثيرة للسخرية بالنسبة للكثيرين وكانت الملاحظات تتطلب ساعات من الانتظار، حيث كان يقيس ميلان القضيب المعدني داخل صندوق مغلق من خلال ثقوب خاصة وتلسكوب، ما يعني أنه كان يحدق في الصندوق لساعات يوميًّا، وقد حدد كثافة الأرض بأنها تساوي خمسة أضعاف ونصف كثافة الماء وكانت توقعاته مختلفة بمقدار 1% فقط عن القيم الصحيحة التي نعرفها اليوم.
طبيعة الضوء الموجية
تجربة الشق المزدوج لها أثر كبير على العالم، فقد أثبتت الطبيعة الموجية للضوء، أي أن الضوء عبارة عن موجات وليس جزيئات (في الوقت الحالي النظرية السائدة هي الطبيعة المزدوجة للضوء، الموجية والجزيئية)، ومن الاستنتاجات المضحكة لطبيعة الضوء الموجية أنه من الممكن لموجتين ضوئيتين أن يلغي كل منهما الآخر إذا كانت الظروف مناسبة، أي أن مصدرين للضوء يمكن أن ينتج عنهما ظلام! والفضل يعود لثوماس يونج الذي تمكن من تفسير هذا اللبس في مطلع القرن التاسع عشر.
قام يونج بنشر أشعة الشمس عبر فتحة خلال التجربة لتمثل المصدر، ثم سمح للضوء بالمرور عبر شقين آخرين بهما الكثير من الخطوط المرسومة على حاجز شفاف، موجات الضوء النتاجة عن الشقين يجب الآن أن تقطع مسافات مختلفة لتصل إلى اللوح المقابل لها، تراكب المواجات أو إلغاء بعضها بعضًا سيعتمد على المسافة التي ستقطعها وما إذا كانت ستصل في نفس الطور أو بطور مختلف، والنتيجة كانت بدلًا من ظهور شريطين من الضوء على اللوح ظهر خط مركزي شديد الإضاءة وخطوط أقل إضاءة وخطوط أخرى مظلمة بالتناوب على جانبي الخط المركزي، في تجربة يونج الأصلية حصل على عدة ألوان نتيجة الأطوال الموجية المختلفة لضوء الشمس ولكن في الصورة أدناه تم استخدام الليزر كمصدر للضوء بدلًا من الشمس للحصول على نتيجة أكثر وضوحًا.
هذه التجربة كانت من التجارب البارزة في عالم الفيزياء، وهو ما عاد بالنفع على ثوماس يونج في وقت كان يواجه فيه نظريات إسحاق نيوتن الذي كان يعتقد بأن الضوء يسير في خطوط مستقيمة مثل الجسيمات (الوجه الآخر للنظرية الحالية للضوء) ولكن كعادة العلم ليس مهمًّا من الذي قال ولكن المهم هو ما الذي قاله وهل اختبره أم لا، ميكانيكا الكم بعد ذلك أثبتت أن كلاهما كان على صواب.