السجل الأحفوري (أمل دارون المفقود ) "فصل من كتاب تصميم الحياة "


السِّجِلُّ الأحفوريّ

3. 1 قراءة السجل الأحفوري:

لطالما حيّرتْنا الأحافيرُ وسحرتنا، فقد وُجدَتْ الأحافيرُ التي استخدمت لأغراضٍ دينيَّةٍ أو لأغراضِ التَّزْيين في مقابر إنسان نياندرتال. يرى أرسطو الفيلسوف(384-322 ق.م) أنَّ الحياةَ تنْشأُ تلقائيًّا من الأرض والأحافيرِ التي فيها ماهي إلا محاولات غير مُتقنة لتلك العملية. ما الذي يمكن أن يفسر وجودِ المتحجرات ذات الشكل الحيواني أو النباتي مطمورةً في أعماق الأرض؟ ربما اعتبرت في أزمنة الخرافات على أنَّها ناجمةٌ عن قوةٍ غامضةٍ في الأرض نفسها، أمَّا اليوم ومع ظهور العلم الحديث فمن الواضح أنَّها تعود لنباتات أو حيوانات عاشتْ في زمن ما، ثُمَّ تحولتْ إلى حجارة نتيجة خضوعها لظروف معينة. إنْ دُفِنَتْ جُثَثُ الحيوانات أو النباتات بسرعة - قبْلَ أنْ تلتهمها الحيواناتُ الرمية أو تتحلل- في تربة تحوي نسبا محددة من الأملاح فإنَّها ستتحول إلى أحافيرَ متحجرة.

علماءُ الأحافيرِ هم العلماءُ المختصون بدراسة الأحافير ويقرؤون السِّجِلَ الأحفوريّ كتاريخٍ للحياة في العصور السابقة (انظر الشكل3-1).يمكن أنْ توجدَ الهياكلُ العظميَّةُ أو آثار الأقدام أو الأوراق أو الأبواغ أو آثار الحيوانات أو الريش أو أخاديد الديدان -بل وحتى مكامن الاختباء- كأحافير. ويحاول علماء الأحافير بالاستفادة من هذه المعلومات إعادةَ بناءِ أشكالِ هذه الأحافير كيوم كانت حية. ماذا تخبرنا هذه الأحافير؟ تعتمد إجابة هذا السؤال -كغيره من العديد من الأسئلة العلمية- جزئيا على الافتراضات المبدئية التي يُفسِر من خلالها العالِم البيانات. فإن افترض أحدنا مثلا استحالة التصميم الذكي بناء على عقيدةٍ ماديَّةٍ فإنَّه سيضع رواية تفسر السجل الأحفوري من خلال قوى مادية عمياء تعمل بلا هدف أو غاية.




الشكل 3-1) تري لوبايت TRILOBITES-أحد ثلاثيات الفصوص البحرية المنقرضة- ثاني أشهر الأحافير المعروفة بعد الديناصورات، إحدى الأحافير التي تستخدم للتعرف على أزمنة الصخور، استخدمت للتعرف على صخور العصر الكامبري.




يُعْرَفُ العلمُ بمناعته ضد النزعة الذاتية التي تتعرض لها حقول أخرى من البحث الإنساني1. ويؤمن العديد من الأشخاص بأنَّ طرائق العلم تؤمِّنُ مصفاةً تُزيلُ التحريفات المحتملة الناتجة عن فلسفة أفراد العلماء أو قيمهم، أخذ العلم سمعته في التجرد والمثالية من وجود العديد من النظريات –كنظرية الجراثيم المسببة للأمراض ونظرية الجاذبية ونظرية ماندل في الوراثة- التي تفسر كيف تعملُ الأشياءُ في الحاضر. ويمكنُ اختبار هذه النظريات ببساطة بمقارنتها بالواقع الحقيقي. فإنْ كان لدينا مثلا نظريةُ دوران القمر حول الأرض فيمكننا اختبارها بالتنبؤ بكسوف مثلا وننظر ماذا يحدث بعد ذلك.

إنَّ إمكانية الاختبار التجريبي للنظريات العلمية هو الأمر الذي أضفى الحيادية والموضوعية على العلم. من المفترض أن يحصل العلماء على نفس النتائج عند إعادة نفس التجارب بنفس الطرق بغض النظر عن قناعاتهم وفلسفاتهم. وتصف عدَّةُ نظرياتٍ علميَّةٍ هذه الظواهرَ المتكررةَ. لذا يمكن اختبار هذه النظريات بشكل مباشرٍ لنحصلَ على إثْباتٍ أو نفْيٍ لها. هذه النظريات مستقلة عن الملاحظات المتعلقة بالماضي. وتخبرنا النظرية الفيزيائية -مثلا- أنَّ الأرض تدور في فلك إهليلجي حول الشمس. يمكننا حسم هذه المسألة وإن فقدنا كل السجلات التي توثيق حركة الأرض في الماضي. كل ما على علماء الفلك القيام به هو عمل بعض الملاحظات الجديدة.


بخلاف النظريات العلمية التي تركز على تفسير أشياء تحدث الآن، تركز النظرية التطورية على أحداث منفردة في الماضي. إن الأحافير على وجه الخصوص - وهي الموضوع الذي يعتمد عليه التنظير التطوري - تمثل أحداثًا تاريخيَّةً منفردةً وغيرَ متكررةٍ بخلاف حالة حركة الكواكب. وبغضِّ النّظر عن كيفية نشوء الحياة -سواء بالتصميم الذكي أو النشوء العشوائي- وبغض النظر عن كيفية نشوء الزرافة أو خنزير الأرض -سواء بالتصميم الذكي أو بالانتخاب الطبيعي- فإنَّ هذه الأحداثَ لا تتكرر. فالماضي قد مضى. وكما يقول عالم الوراثة Theodosius Dobzhansky:الأحداثُ التطوريةُ أحداثٌ وحيدةٌ منفردةٌ غيرً متكررةٍ وغير عكوسة. فمن المستحيل تحويل فقاري أرضي إلى سمكة كما أنه من المستحيل الإتيان بالتحول المعاكس(1) وبالمثل فإنَّ أصلَ حياة ما بالتصميم الذكيِّ ربما كان ذو أصل فريد وحيد غير متكررٍ وغير عكوس.

نستنتج إذًا أنَّ علمَ الأحافير علمٌ تاريخي، وهو يبحث عن أمارات ليعيد بناء ما يُظنُّ أنَّه قد حدث في الماضي كما يفعل المحقق تماما. يطلق مصطلح الرواية التاريخيةعادة على عملية إعادة بناء قصة ما. ويستقي علماءُ الأحافير هذه الأمارات من الأحافير والتسلسلات الجزيئية لبناء الرواية التاريخية.(انظر الفصل 5)تكون هذه البيانات ناقصةً دومًا وغامضةً غالبًا وتتيح المجالَ لعدة تفسيرات، وقد تُدعم بعض التفسيرات بأدلة أكثر من غيرها.

يوضح هذه النقطة عميد التطوريين الأمريكيين -حتى وفاته 2005م- بجامعة هارفارد إرنست ماير، في كتابه الأخير (ما الذي يجعل علم الأحياء مميزا؟)فيقول:

لا غِنًى عن معرفة التاريخ لتفسير كل جوانب العالم الحي الذي يتضمن البعد التاريخي، ويقدم علمُ الأحياء التطورية طرائقَهُ الخاصةَ للحصول على إجابات وتفسيرات -وخصوصا في الحالات التي يتعذر فيها إجراء التجارب-، إنها الروايات التاريخية أو السيناريوهات المؤقتة.(2)

لذا، ووفقا (لماير)، يقوم علماء الأحافير بافتراض سيناريوهات مؤقتة متفاوتة المعقولية لما يمكن أن يبدو عليه شكل الماضي.

من الصعب الاقتناعُ بأنَّ الروايات التاريخية أو السيناريوهات المؤقتة أو الفرضيات المعقولة هي المادةُ الخامُ لعلم حقيقي دقيق. ومع ذلك يتعامل الداروينيون مع السجل الأحفوري كورقة رابحة دوما. فهم يتركون السؤال حول كيفية حدوث التطور جانبا ويدافعون دوما عن فكرة أنَّ السّجلَّ الأحفوريَّ يثبت حدوث التطور، وبالتالي فإنهم يدَّعون أنَّ الأحافيرَ تثبتْ أنَّ تاريخَ الحياة على الأرض هو شجرةٌ متفرعةٌ تدريجيًّا تتفرع فيها الكائنات الحية عبر عدد لا يحصى من الأجيال التي تتحسن تدريجيا مع الزمن. أي أنّ السجل الأحفوري يثبت بشكل ساحق حدوث التغيرات التطورية الكبيرة -التطور الكبروي أو الماكروي-.

تفترض هذه النتيجة أنَّ بعضَ الأشكال المادية من التطور –كما تفعل الداروينية- تقدم التفسيرَ الوحيدَ المقبولَ للسجل الأحفوري، ولكن هذا الافتراض خطأ، فالتصميم الذكي يقدم أيضًا تفسيرًا مقبولًا للسجل الأحفوري، وكما سنرى في هذا الفصل، التصميم الذكي متوافق بشكل مناسب مع نتائج الأدلة التجريبية، لأنَّه يتفق مع فكرة الظهور المفاجئ للكائنات كاملة التشكل في السجل الأحفوري، منفصلة بفجوات كبيرة عن غيرها من الكائنات المتحجرة.


3. 2 أخطر اعتراض على نظرية داروين:

افترض داروين أنَّ كلَّ الكائنات الحيَّةِ تعود في أصلها إلى شكل واحد أو أكثر بقليل من الأشكال الحية البدائية، ويحمل العلماء الداروينيون المعاصرون نظرة داروين هذه لأقصى ما تدل عليه، مفترضين بأنَّ كل أشكال الحياة تعود إلى سلف مشترك عالمي واحد Universal common ancestor.وفقا لهم يتحول أحد الكائنات الحية إلى كائن آخر بالتغير التدريجي لا التغير المفاجئ، ويحدث التحول بعدد هائل من التغيرات الصغيرة الناجحة.(3)

ولتوضيح نظريته تخيُّليًّا استخدمَ داروين شكلَ الشجرة: يمثل الجذع السلف المشترك وتمثل نهايات الفروع الكائنات الحية. فإنْ كانتْ كلُّ الكائنات الحية عبارة عن سلالات تغيرت عبر الزمن من الأصل المشترك -كما يظن داروين- عندها يمكن تمثيل تاريخ الحياة بشجرة متفرعة تضم كل الأنواع الحية وسماها شجرة الحياة الكبرى. (انظر الشكل 2.3) وتعتمد الصيغ الحديثة من نظرية داروين على افتراض السلف أو الأصل المشترك.







(
الشكل 3 -2) شجرة تطور سلالي عامة تظهر نمط التطور التدريجي المألوف.



إلى أيِّ حدٍ تتوافق نظرية داروين وفكرةُ الأصل المشترك مع السجل الأحفوري؟
 إنْ كانت نظرية داروين صحيحةً وكان السجلُ الأحفوريُّ كاملًا فيجب أنْ تُظهرَ الأحافيرُ سلالاتٍ مستمرةً من المخلوقات تنتقل عبرها المجموعات الرئيسية بشكل دقيق من شكل إلى آخر بعدد هائل من الأشكال الانتقالية
(تماما كقرص الألوان الذي تتدرج فيه الألوان بشكل دقيق وناعم من لون لآخر). إنَّ الاختلافات التي تفصل بين المجموعات الرئيسية في التصنيف (مثلا، بين الطيور ونجم البحر) كبيرةٌ جدًّا ولا تستطيع النظرية الداروينية تجاهل حقيقة الحاجة لعدد كبير من الأشكال الانتقالية، حتى أنَّ داروين نفسَهُ كتب في أصل الأنواع:

تلتقي كلُّ الأنواع الحيَّة التي تنتمي لجنس معين -وفق نظرية الانتخاب الطبيعي- عند نوع واحد هو سلف لكل أنواع هذا الجنس. إمتلك هذا النوع السلفي تنوعات ليست أكثر من التنوعات التي نراها ضمن الأنواع الموجودة حاليا من هذا الجنس. انقرض هذا النوعُ حاليًا وتحول. يرتبط هذا النوع القديم مع أنواع أخرى قديمة -تعتبر سلفا لأجناس أخرى- بنوع سلف واحد. وهكذا حتى الوصول إلى السلف المشترك لكل صنف class كبير، لذا لا بد أن يكون عدد الأنواع الوسيطة الانتقالية بين كل الكائنات الحية أو المنقرضة عددًا هائلًا جدا. لا بُدَّ أن تكون كل هذه الكائنات قد عاشت على الأرض إن كانت هذه النظرية صحيحة.(4)

تحتاج فرضية السلف المشترك لأي نوعين من الأحياء وجود أشكال انتقالية تربط أحدهما بالآخر. ونظرا لاعتماد النظرية الداروينية على التغيُّر التطوري التدريجي، فإنه كلما زادت التباينات بين النوعين زادت الحاجة للأشكال الوسيطة بينهما. ستقدم وفرة الأشكال الانتقالية في السجل الأحفوري -إنْ وُجِدَتْ- دليلا متينا مدعوما بالقرائن يمكن أنْ تُبْنى عليه نظرية التطور. يوجد السلف المشترك العالمي في جذر شجرة الحياة الكبرى لداروين -LUCAاختصارا- وهو السلف الأحدث لكل الأشكال الحية الموجودة. تنمو الشجرة وتتفرع بمرور الوقت وتظهر أنواعٌ جديدة، وبظهور أنواع جديدة تظهر الأجناس تدريجيًّا مشكّلة عائلات ومن ثم رتب، وباستمرار تفرُّع المزيد من الكائنات الحية تظهرُ أصناف الكائنات والشُّعَبُ الحية، وبهذه الطريقة تظهر كل التصنيفات الحية في النهاية بالقرب من جذر شجرة الحياة لكنها تبدو أعلى في الفروع. (انظر الشكل 3.3)

لكن داروين لا يملك مثل هذا الدليل، ولم يستطع العلماء منذ زمن داروين اكتشاف الروابط المفقودة، وكما كتب داروين في كتابه (أصل الأنواع): لا بُدَّ أنْ يكون عدد التنوعات الوسيطة التي وجدت يوما ما على الأرض كبيرا جدا(5) إلا أنَّ هذا العدد الهائل من الأشكال الوسيطة غير موجود في السجل الأحفوري، ولا يظهر سلسلة مستمرة من الكائنات التي تربط السمك بالزواحف أو بالطيور. لقد اعترف داروين بالحقيقة التالية: “لماذا لا تمتلئ كل طبقة جيولوجية صخرية بهذه الكائنات الوسيطة؟ لا تُظهر طبقات الأرض أي سلاسل من الكائنات المترقية بشكل تدريجي“(6). ويُعتبر هذا، بحسب كلام داروين نفسه، الاعتراض الأوضح والأخطر على نظريتي.(7)

أقرَّ داروين -وهذا مما يحُسب له- بأنَّ غياب الأشكال الوسيطة يخلق مشكلة جدية تعترض نظريته، بينما يستمر بعض العلماء -رغم هذا الإقرار- في اعتبار قضيته لصالح التطور مقعنة جداً. وربما اعتذروا للنظرية بأنَّ الأحافير الوسيطة المفقودة ستكتشف يوما ما. لقد كانت الكشوفاتُ الحفريَّةُ أيامَ داروين ضئيلةً ومتفرقةً حتى أنَّ البحث عنها لم يكن منظما، وكان داروين يأمل بأنْ يقومَ العلماءُ لاحقا باكتشاف هذه الأشكال الوسيطة المفقودة مع استمرار بحثهم المتأني والمنظم، ومن هنا بدأ البحث عن الروابط المفقودة.





ماذا وجد علماءُ الأحافير؟

 لقد وجدوا العديد من الأحافير، لكنهم لم يجدوا العدد الهائل من الكائنات الوسيطة التي كانت موجودة يوما ما كما تفترض نظرية داروين

. وبدلا من ملء الفجوات التي تنتشر في السجل الأحفوري، فإنَّ الاكتشافات الحفرية الجديدة أوجدت أيضاً فجوات جديدة. ومن المسلم به أنّه وجدت بعضَ الأنماط الغريبة في الأحافير التي كشفت سمات مشتركة بين كائنات حية مختلفة جدا، وبالتالي فشلت في الانسجام مع المجموعات التصنيفية الموجودة حاليا. لدينا مثالان مشهوران على هذه الحالة: الأركيوبتركس -طائر قديم بسمات حيوان زاحف-، والبلاتيبوس ذو المنقارِ الشبيه بالبط والفرْوِ الشبيه بالثدييات، (انظر الشكل 4 -3) ومع ذلك تميل هذه الكائنات الفريدة للانتماء إلى إحدى المجموعات التصنيفية، فهي لا تملك سمات مشتركة بنسب متساوية بين مجموعتين تصنيفيتين أو أكثر.

خُذ الأركيوبتركس كمثال. يبدو الريش في هذا الحيوان مطابقا للطيور الحالية وله بنية انسيابية حقيقية ملائمة للطيران. يملك الأركيوبتركس مجموعة من الخصائص التكيفية الشبيهة بتكيف الطيور اليوم بالإضافة لخصائص متعددة من الزواحف، بما في ذلك الذيل العظمي ووجود الأسنان في المنقار والمخالب في الأجنحة. وتبدو حالة البلاتيبوس كحالة الأركيوبتركس، يضع البلاتيبوس البيوض وله منقارٌ شبيهٌ بالبطّ لكنه يشبه الثدييات في امتلاكه للفراء وإرضاعه للصغار. ويدرج علماء التصنيف البلاتيبوس ضمن الثدييات ولم يعتبره أحد شكلا انتقاليا بين الثدييات والطيور. وتشبه معظم الروابط المفقودة المفترضة هذه الحيوانات وهي تصنف في إحدى المجموعات التصنيفية الحية ولا تدرج بكونها ضمن مجموعة تصنيفية مختلطة.



(الشكل 3-4) بلاتيبوس بمنقار البط.


تعرَّفْنا اليومَ، وبعْدَ 150عاما من نشر نظرية التطور لداروين، على آلاف الكائنات المتحجرة التي لم تكُنْ معروفةً لداروين. لكن بقيت الفجوات بين المجموعات التصنيفية الرئيسية للحيوانات عصيَّةً على الملء. منذ أن نُشرت نظرية داروين وعلماء الأحافير في حيرة من أمر الندرة الشديدة في الأحافير الانتقالية. نعم يمكن تفهُّم وجود الأمل أيامَ داروين بأنْ تكتشف الروابط المفقودة، حين كان علم الأحافير في بدايات تشكُّله. أو ربما لم يقمْ العلماءُ بالبحث عنها كما ينبغي. إلا أن قلةً من العلماء يدافعون عن هذا التفسير. أما اليوم فقد استخرجت أعدادًا مذهلة من الأحافير، وسرعة اكتشاف المزيد منها تفوق قدرتنا على تصنيفها.(انظر الشكل3-5)

كلما ازدادَ عددُ الأحافير المكتشفة من قبل علماء الأحافير ازداد وضوحُ تعارض الأحافير المكتشفة مع ما تفترضه نظرية داروين. إنَّ نمطَ الأحافير المكتشفة ليس نمطًا متشعّبا بشكل تدريجي، بل إنَّه يشكل عناقيد مجتمعة تفصل بينها فراغات. قد لا يكون ذلك مفاجئاكونهنفس النمط الذي نجده بين الكائنات الحية اليوم. فمثلا توجد العديدُ من سلالات الأحصنة لكنها منعزلةٌ بشكل واضح عن الماشية، وبالمثل يوجد العديد من تنوعات الذرة، لكن لن يصعبَ على أحد التفريق بينها وبين القمح، وتتجمع التنوعات حول نمط مورفولوجي-من اليونانية وتعني الشكل أو البنية-أساسي، بدلًا من اندماجها فيما بينها على نحو سلس.



3.3 السمات الأساسية للسجل الأحفوري:

عوضاً عن التسجيل المرئي لتاريخ الحياة (والذي لا يتوفر مع الأسف)، يقدم لنا السجل الأحفوريُّ الدليلَ الأفضلَ الذي يمكن أن نبني عليه محاولات إعادة بناء تاريخ الحياة. برزت أمامنا ثلاثُ سمات للسجل الأحفوري أثناء بحث العلماء حول أصل الحياة وتشعبها إلى أشكال وفيرة:


  1. الانفجار الكامبري: ظهرت الكثير من أشكال الحياة الحيوانية في السجلات الصخرية مع بداية العصر الكامبري، حيث نشأت معظم شعب الحيوانات المعروفة (أكثر من 95%) في هذه الفترة الصغيرة من عمر الأرض (استمرت نحو 5 إلى 10 مليون سنة فقط وفق التقديرات الحالية). توقف بعدها ظهور المجموعات التابعة للشُّعبِ الحيوانية -مع بعض الاستثناءات- خلال السجل الأحفوري. وتؤلف الشعب المجموعات الرئيسية لأشكال الحياة الحيوانية. ويمكن تمييز الشعب الحيوانية بالاختلافات الشكلية الكبيرة، وبالمخطط الجسدي العام. ويجب على كل نظرية تحاول تفسير ظهور المجموعات التصنيفية الرئيسية داخل المملكة الحيوانية أنْ تفسر كيفية ظهور كل تلك الاختلافات في المخطط الجسدي العام على نحو مفاجئ.



  2. فترة الركود: بمجرد أنْ ظهرتْ الحياةُ بشكلها الأول في السجل الأحفوري ظلت على حالها دون تغير لفترة طويلة (عدة طبقات صخرية). بل قد تبقى بعض الأشكال على حالها حتى يومنا هذا دون أي تغير ظاهري لعشرات أو مئات الملايين من السنين، أو أنها تبقى ثابتة غير متغيرة إلى أن تنقرض فيما بعد. تدعى خاصية بقاء الكائنات الحية ثابتة في السجل الأحفوري مع مرور الزمن دون تغيّر يُذكر بالركود، ولذلك تُظهر الأحافيرُ بشكلٍ ساحقٍ تنوعاتٍ ثانويةً ضمن النوع الواحد بدلا من إظهار نوع واحد يتحول تدريجيا من شكل إلى آخر. وبهذا الحال يتفق السجل الأحفوري مع ما يعلمه مربو الحيوانات والنباتات منذ زمن، وهو أنَّ انتقاء سلالات معينة قد ينتج تنوعات مثيرة وغير اعتيادية من الورود أو الكلاب، لكن أيًّا منهما لا يتغير عن كونه وردة أو كلبا.



  3. الفجوات: على الرغم من ظهور الأحافير في تراتب زمني معين -سمك ثم زواحف ثم ثدييات- إلَّا أنَّ السجلَّ الأحفوريَّ لا يدعم الادعاءات الداروينية بأن المجموعات التصنيفية الرئيسية مرتبطة ببعضها بأصل مشترك. لا يوجد مثلا سلاسل متدرجة من الأحافير تملأ الفراغ بين الأسماك والبرمائيات أو بين الزواحف والطيور، بل تظهر الأحافير كاملة النمو والتمايز والوظيفة من أول ظهور لها في السجل الأحفوري. وتظهر أحافير الأسماك الأولى كل الصفات المعروفة للأسماك اليوم. وكذلك تُظهرُ الزواحفُ في السجل الأحفوري كلَّ صفات الزواحف الحية اليوم. هذا النمط ظاهر عبر السجل الأحفوري ككل. هناك ندرة شديدة في الأدلة على وجودِ السلاسلِ المتدرِّجَةِ من الأحافير الواقعةِ بين المجموعات التصنيفيَّةِ الكُبْرى، بدلاً من ذلك هناك فجوات عديدة عبر السجل الأحفوري.


لندرس سمات هذا السجل الأحفوري بشكل أعمق، إنَّ السمةَ الأبرزَ في السجل الأحفوري هي النشأةُ المفاجئةُ لشعب الحيوانات في العصر الكامبري أو ما يُعْرفُ بالانفجار الكامبري.

تشكل هذه الشعب التقسيمات الرئيسية بين الحيوانات. وتمتاز كلُّ شعبة عن الأخرى في بمخطط الجسد الأساسي. نتيجةً لذلك يشيرُ ظهور الشعب إلى حدوث تعديلات تطورية واسعة وشاملة ومع ذلك ظهرت الغالبية العظمى من شعب الحيوانات الحية (تبلغ 30 ويختلف العدد لاختلاف العلماء في تصنيفها) خلال فترة زمنية وجيزة بالمقاييس الجيولوجية. تشير التقديرات الحالية إلى أنَّ هذا قد حدث خلال 5 -10 مليون سنة في الفترة الفاصلة بين العصرين الكامبري وما قبل الكامبري. وإنْ أخذنا في عين الاعتبار تاريخ الحياة المقدر بــ3.8 مليار سنة2فإنَّ هذه الفترة تعتبر طرْفَةَ عيْنٍ مقارنةً بهذا التاريخ، كما أنَّ السجل الأحفوري لا يقدّمُ أيَّ دليلٍ على أنَّ الشُعب المنقرضة مرتبطة مع بعضها بمراحل تطورية وسيطة

بدأ العصر الكامبري منذ 550 مليون سنة تقريبا، لنعرفَ أهميةَ الانفجار الكامبري سنعودُ لأحافير ما قبل هذا الانفجار. لقد وجدَ علماءُ الأرض أدلةً على الحياة قبل العصر الكامبري بكثير. فقد وجدوا مثلا ترسبات في إفريقيا واستراليا تحوي كائنات حيةً متحجرةً وحيدةَ الخلية قدَّروا عمرها بما يزيد عن 3 مليارات سنة. كما وجدوا أنَّ الترسبات الأحدث من ذلك بقليل تحوي أحافيرَ تُعرَف بالستروماتولايت، وهي طبقات مسطحة من الجراثيم القادرة على التصنيع الضوئي. وتتألف الأحافير ما قبل العصر الكامبري من كائنات وحيدة الخلية فقط ويستمر ذلك إلى ما قبل العصر الكامبري بقليل.

اكتُشِفتْ أولُ الكائنات متعددة الخلايا قبل العصر الكامبري بقليل (ليس أقدمَ من 620 مليون سنة) في تلال إيدياكارا في استراليا في الأربعينيات ومنذ ذلك الحين تم اكتشاف أمثال هذه الأحافير أيضا في عدة أجزاء من العالم. تختلف أشكال الحياة الموجودة في إيدياكارا عن أشكال الحياة في العصر الكامبري بشكل كبير (انظر الشكل 3-6). بل إنَّ العديدَ من أحافير إيدياكارا غريب جدا لدرجة أنَّنا لا يمكننا الجزمُ إنْ كانت قد عاشت كحيوانات. وتتألف أحافير إيدياكارا من كائنات ذات شكل قُرصي وهيئة شبيهة بالورقة. يعتقد عالم الأحافير من جامعة كامبريدج Simon Conway Morris أنَّ أحافير إيدياكارا كانت حيوانات، ويعتقد أيضا أنَّها ليست من أسلاف الحيوانات التي ظهرت في العصر الكامبري مع وجود بعض الاستثناءات.




(الشكل 3-6) ديوراما3يظهر أشكال الحياة الإيداكارانية كما وجدت في الأحافير. ينتشر في هذا الشكل الأسماك الهلاميةjellyfish (Ediacaria flindersi : لها شكل البيض المقلي، Mawsonites spriggi: لها شكل القرص الأزرق في مركز الشكل، Kimberelle quadrata: لها شكل متطاول في المركز، وريش البحر Sea pens (Charniodiscus arboreus): الريش الزهري، Charniodiscus oppositus: الريش البرتقالي، والديدان المسطحة (Dickensonia costata: الشكل البيضوي على القاع، والأشنيات: الأصابع الخضراء الداكنة والأشعار الخيطية.


هناك ثلاثة أمثلة أخرى على الحيوانات متعددة الخلايا وتسبق مباشرة العصر الكامبري:


  1. كائنات صغيرة ذات قشرة ولا تشبه أحافيرها أي مجموعة أخرى معروفة.



  2. أحافير تظهر فيها آثار الكائنات لا الكائنات نفسها، كالجحور والأخاديد.



  3. أحافير لثنائيات الجانب المجهرية الطرية (ديدان ذات تناظر ثنائي، أو ذات جانبين أيمن وأيسر لصورة مرآة) ظهرت قبل 40 -45 مليون سنة قبل العصر الكامبري.


باستثناء هذه الأمثلة وربما بعض الكائنات الإيدياكارانية الحية، لا يوجد أيُّ دليل أحفوري آخر لحيوانات متعددة الخلايا قبل العصر الكامبري. لقد تم تشكيلُ السجل الأحفوري الآن بشكلٍ جيّد، إلَّا أنَّه لا يثبت نهائيا أيّ شكل انتقالي من كائنات ما قبل العصر الكامبري إلى كائنات العصر الكامبري، ولا يوجد أيُّ دليل على التشعب المتدرج للكائنات وهو الأمر الذي تتطلبه نظرية داروين.

حتى صخور العصر الكامبري لا تقدم معلوماتٍ كافيةً لتفسير الانفجار الكامبري. يخامر علماء الأحافير شعورٌ بأن شعب الحيوانات الإضافية قد وجدت بعد صخور العصر الكامبري، إلَّا أنَّهم يبحثون عنها في صخور العصر الكامبري نفسه. فمثلا لا توجد أحافير للديدان المسطحة في صخور العصر الكامبري –شعبة Platyhelminthes- إلَّا أنَّ علماء الأحافير يؤمنون بأنَّ هذه الشعبة قد وجدت قبل غيرها من الشعب، ولا بُدَّ أنْ توجدَ أحافيرها في الصخور الكامبرية. أضف إلى ذلك وجود عدد محدود جداً من الشعب المحتملة (نظرا للاختلاف في تصنيفها) لحيوانات منقرضة طريَّةٍ في منتصف العصر الكامبري. لكن مع ظهور أدلة أحفورية جديدة، أمكن إرجاع عمر هذه المجموعات المنقرضة إلى الفترة القصيرة التي حدث فيها الانفجار الكامبري (قريبا من مطلع العصر الكامبري). وظهرت خلال هذه الفترة 40 شعبة جديدة على الأقل. يوضح الشكل (3- 7) مدى التنوع الكبير الحاصل في الانفجار الكامبري. لقد سبب الانفجار الكامبري ظهور كل الشعب الحيوانية المعروفة، ويخمن عالم الأحافير جيمس فالنتاينJames Valentine بقاء بعض الشعب غير مكتشفة حتى الآن وأنَّه يوجد 60 شعبة على الأقل في ذلك الوقت. يقول جيمس: “نعتبر هذا التخمين (أي ظهور نحو 60 من الشعب الحيوانية في فترة الانفجار الكامبري) قريبا من الواقع. إنْ ظهرت هذه الشعب بالترتيب الصحيح فإنَّ الأحداث التطورية في الفترة القليلة السابقة لبداية العصر الكامبري قد حدثت بسرعة غير متوقعة ضمن السلالات، لكنها تضمنت ظهور العديد من التصانيف الأعلى، لتظهر بشكل انفجار أحيائي من غير مقدمات. لقد حدث التطور بخطوات سريعة وكبيرة“.(8)

لم يبدأ العصر الكامبري بشكل مفاجئ فقط، بل انتهى بشكل مفاجئ أيضا. تبع ظهور الشعب الحيوانية الجديدة منذ مطلع إلى منتصف العصر الكامبري فترة هدوء مطلق ولم تظهر شعب حيوانية جديدة خلال الـ 500 مليون سنة التالية أو أكثر من الزمن الجيولوجي! أضف إلى هذا أنَّ ظهور الصفوف الجديدة (الصفوف هي التصانيف ضمن الشعبة الواحدة) قد تراجع بشكل كبير أيضا. فمثلا، ظهرت أكثر من نصف الصفوف البحرية المتحجرة الاثنين والستين، والمعروفة جيّدا، مع نهاية العصر الكامبري، في حين ظهرت 29 % في العصر الأوردوفيسي (الفترة الأرضية التالية للعصر الكامبري بتاريخ يصل إلى 490 مليون سنة).(9)



(الشكل 3-7) تصور عام للسجل الأحفوري يظهر الأصل الكامبري لكل شعب الحيوانات تقريبا مع علاقتها بالزمن الكلي لتاريخ الحيوانات. الخطوط الكاملة تشير إلى الشعب المثبتة بالسجل الأحفوري في حين تشير الخطوط المنقطة للشعب التي يفترض وجودها ولم تكتشف أحافيرها بعد.


ووفقا لفالنتاين وزميله فإنَّ عدد الرتب الجديدة (الرتب هي التصانيف ضمن الصف الواحد) يتناقص مع مرور الزمن: “تظهر رتب الحيوانات البحرية بشكل مبعثر أكثر إلا أنها تظهر بشكل عام في مطلع العصر الباليوزي (الفترة الأرضية التي تبدأ مع العصر الكامبري)(10). إلا أن نمط الظهور هذا لا يتفق مع نظرية داروين. تفترض نظرية داروين الظهور التدريجي لتشعبات الكائنات الحية قبل أنْ تنفصل بشكل كامل عن بعضها. في واقع الأمر، يُظهر السجل الأحفوري عكس ذلك تماما بالنسبة للمستويات التصنيفية الأعلى (كالشعب والصفوف والرتب).

إنَّ الظهور المتزامن تقريبا لمعظم الشعب المعروفة يبدو واضحا عندما نعلم أنَّ التنوعات داخل الشعبة الواحدة أقلَّ من التنوعات بين الشعب المختلفة. فالكائنات المنتمية للشعبة الواحدة متماثلة في مخططها الجسدي الأساسي، في حين تمتاز كل شعبة عن غيرها بمخطط جسدي خاص. وكنتيجة لذلك يكون التباعد الشكلي بين شعبتين مختلفتين أعظم من التباعد الشكلي بين أي كائنين ينتميان لنفس الشعبة. هذا يعني أنْ نشوء الشعب الجديدة يمثل الإنجاز التطوري الأعظم لزيادة تنوع الحياة. لكن نشوء الشعب الحيوانية الجديدة منحصر في ما نسبته 1-2% من السجل الأحفوري للحيوانات. كما أنَّنا نحتاج لأحافير لملء الفجوات بين الاختلافات الشكلية الكبيرة بين الشعب المختلفة، ومن ثم فلا يوجد دليل على النشوء التطوري المتدرج لها بكل بساطة. ورغم أنَّ المظاهر المتباعدة بين الشعب الحيوانية تشكل السمة الأبرز للسجل الأحفوري إلَّا أنْ هذا الكشف يلقى اهتماما ضئيلا من معظم مناهج علم الأحياء. إن الانفجار الكامبري يشكل التحدي الأكبر لنظرية التطور المعاصرة.

وإننا لنجد نفس الافتقار للأحافير الانتقالية المميزة للانفجار الكامبري عبر كل السجل الأحفوري. حتى أننا لو جمعنا كل البيانات الأحفورية من كل العالم ومن كل الطبقات الصخرية (بغض النظر عن تاريخها المفترض) فلن نقدر على تشكيل سلسلة متدفقة واضحة من المراحل الانتقالية. ومع اكتشاف المزيد من الأحافير ازدادت أهمية دلالة هذه الفجوات. يعلق عالم الأحافير من جامعة شيكاغو David Raup على هذه المشكلة قائلا:

لقد توسع فهمنا للسجل الأحفوري بشكل كبير منذ نشر داروين لكتابه (أصل الأنواع) إلَّا أنَّنا لا نَمْلك حتى الآن سوى أمثلة قليلة من الأشكال الانتقالية بل أقلَّ مما كان معروفا أيام داروين. أعني بذلك أننا اضطررنا لنفي بعض الحالات التقليدية المشهورة للتغيرات الداروينية في السجل الأحفوري، كتطور الحصان في أمريكا الشمالية بعد ظهور المزيد من المعلومات المفصلة حول ذلك.(11)

وبالمثل قال عالم الأحافير من جامعة هارفارد Stephen Jay Gould:إن الندرة الشديدة في الأشكال الانتقالية ضمن السجل الأحفوري مستمرة وكأنها ملازمة لعلم الأحافير. إنَّ الأشجار التطورية التي تزين مناهج علم الأحياء مبنية على بيانات حقيقية تدل على نهاياتها وعقد التفرع فيها، أما بقية الشجرة فهي من استنتاجنا النظري غير المدعوم بالدليل الأحفوري.(12) ويتابع غولد ليُعرّف سمتين تاريخيتين لمعظم الأنواع المتحجرة:


  1. الثبات: لا تُظهر معظم الأنواع أي تغيرات موجهة خلال وجودها على الأرض، بل تظهر في السجل الأحفوري بشكل مشابه تماما لشكلها حين تختفي منه. إنَّ التغيُّرات الشكلية محدودةٌ عادة وغير موجهة.



  2. الظهور المفاجئ: لا يظهر النوع بشكل متدرج بتحول مستمر لسلفه التطوري ضمن منطقة محلية، بل يظهر كله دفعة واحدة وبشكله الكامل.(13)


ويصف عالم الأحافير الشهير (Steven Stanley) بجامعة جونز هوبكنز هذا النقص في الدليل الأحفوري على تطور الأشكال الانتقالية في مستوى الجنس (تصنيفيا) قائلا: رغم الدراسة التفصيلية لثدييات العصر البليستوسيني في أوروبا لا يوجد أي مثال صالح ليكون سلفا انتقاليا تطوريا من جنس لآخر.(14)

 حضّ عالم الأحياء Harold Bold، على سبيل المثال، العلماء المشتغلين بتفسير السجل الأحفوري على التمييز بين الدليل والتخمين. ثم أردف قائلا: “لا يوجد الآن أيُّ شكل حي أو أحفوري يربط بين أي مستويين تصنيفيين في المملكة النباتية بشكل قاطع.(15) ورغم أنه قد كتب هذه العبارة منذ 30 سنة إلَّا أنَّها لا تزال صحيحة حتى يومنا هذا.

تعتبر ندرة أحافير الأشكال الانتقالية في كل من المملكة الحيوانية والنباتية مشكلة مزعجة للنظرية الداروينية. ماذا يعني وجود هذه الفجوات، كيف يجب أن تفسر هذه الفجوات؟ طرحت أربعة تفسيرات لحل هذه المشكلة:


  1. السجل غير محفوظ جيدا: تنتج الفجوات في السجل من كونه غير محفوظ بشكل جيد. توفرت ظروف التحول إلى أحافير لنسبة قليلة من الكائنات التي عاشت في الماضي ، لذا فمن غير المتوقع أن يؤدي البحث المستقبلي إلى ملء هذه الفجوات، ويجب أن تدعم نظرية التطور بأدلة غير السجل الأحفوري.



  2. نقص عمليات البحث: تنتج الفجوات من العجز عن فحص الطبقات الصخرية الحاوية على أحافير بشكل عميق. ستُملأ الفجوات مع استمرار الحصول على مزيد من العينات الأحفورية.



  3. التوازن المتقطع (Punctuated Equilibrium): تنتج الفجوات من كون التطور يحدث بخطوات كبيرة، قفزا من نوع إلى نوع. لقد كان داروين مخطئا عندما ادَّعى أنَّ التطور يحدث على نحو تدريجي مستمر، والواقع أنه يحدث بشكل سريع في جماعات صغيرة معزولة ثم تتلو ذلك فترة توازن ثابت. رغم أن الأشكال الانتقالية قد وُجدت، إلا أن النزر اليسير منها قد حفظ كأحافير أو أنَّها لم تحفظ على الإطلاق.



  4. الظهور المفاجئ: إنَّ الفجوات في السجل حقيقية وهي تعكس الانقطاعات المتأصلة في الطبيعة. لقد ظهرت مجموعات الأحياء الرئيسية بشكل مفاجئ ولم تأت عبر أشكال انتقالية.


هيا بنا نختبر كل واحد من هذه الاحتمالات.

4.3 السجل غير المحفوظ جيّدا:

إنَّ النقص الحاصل في السجل الأحفوري هو التفسير الأكثر قبولًا لندرة الأشكال الانتقالية الأحفورية، بل كان التفسير المفضل لداروين نفسه فكما قال:يكمن تفسير الفجوات في السجل كما أعتقد بكون السجل ناقصًا بشكل كبير.(16) لكن إلى أيّ حد نجد هذا النقص في السجل؟ لقد ماتت العديد من الكائنات الحية عبر تاريخ الحياة وتحللت دون أن تترك أحافير لها. لكن المشكلة ليست في ضياع أحافير أفراد الكائنات بل في الدرجة التي يمثل بها السجل الأحفوري الأنماط المختلفة من الكائنات.

حين نأخذ بعين الاعتبار أنماطًا مختلفة من الكائنات، فإن الشيء الأهم في السجل الأحفوري هو تمثيل كل نمط منها. أما حين تكون المسألة مسألة تحجُّر أمثلة عديدة من نمط وحيد للكائن، أو تحجّر مثال واحد فقط لكل من الأنماط العديدة للكائن، فإن علماء الأحافير سوف يفضلون الحالة الأخيرة. في ضوء هذه المعطيات، يصبح السجل الأحفوري أقل نقصاً إلى الدرجة التي يمكن معها من حفظ المزيد من العديد من الأنماط المختلفة للكائنات (وليس إلى الدرجة التي تسمح بتمثيل نفس الكائن عدة مرات)

إلى أيِّ حد نجد الخلل في السجل الأحفوري؟ حين لا يُنظَر للسجل باعتبار أعداد الكائنات التي لم يحالفها الحظ في أن تُحفظ، وإنما بدلاً من ذلك يُنظر له باعتبار الأنماط المختلفة التي حفظت فيه بالفعل، وإلى درجته التمثيلية، فإننا حينها سنجد أنَّ السجل الأحفوري جيد جدا، على الأقل في رسم الخطوط العريضة لتاريخ الحياة. كيف نعلم ذلك؟ من السهل التأكد من مدى تمثيل السجل لعدد الأنماط الحية المعروفة لدينا. نأخذ نسبة أحافير هذه الأنماط إلى عددها لنعرف ذلك، وستعطي هذه النسبة معيارا جيدا لدرجة انحفاظ أنماط الكائنات الحية في السجل الأحفوري.

مثلا من بين 43 رتبة حية للفقاريات الأرضية (الرتب هي الأجزاء التصنيفية الأصغر من الصفوف والشعب)، نجد 42 رتبة في الأحافير. أيْ أنَّ 98% من الفقاريات الأرضية الحية اليوم ممثلة في الأحافير على مستوى الرتب. يمكن المراهنة إذاً على أنَّه لو وُجدت رتب أخرى من الفقاريات الأرضية غير هذه الرتب لكنّا وجدناها في الأحافير.

وبالانتقال من التصنيف الأوسع إلى الأضيق تتقلص نسبة الكائنات المحفوظة في الأحافير ولكنها تبقى نسبة جيدة. فمن بين 329 عائلة معروفة من عائلات الفقاريات الأرضية (العائلة هي الأجزاء التصنيفية الأصغر من الرتب)، نجد أنَّ 261 عائلةً لها أحافير بمعدل يصل إلى 80% إنْ حذفنا الطيورَ من حساباتنا (كونها الأقل نزعة للتواجد في السجل الأحفوري) نجد أنَّه من بين 178 عائلةً من عائلات الفقاريات الأرضية التي لا تزال حية وليست من الطيور قد حفظ 156 عائلةً في الأحافير بنسبة تصل إلى 88%. إنَّ نسبة 66% على مستوى الجنس شائعة أيضا.(17)

يمكن إجراء تحليلات مشابهة على اللاَّفقاريات والنباتات. وبالنظر إلى نسبة الكائنات الحية التي تنتمي إلى أحد المستويات التصنيفية والمحفوظة في السجل الأحفوري يستطيع علماء الأحافير الاستدلال على نسب الأحياء الأخرى سواء الحية أو المنقرضة. الدليل هنا واضح وحاسم في كون السجل الأحفوري أداة جيدة لحفظ الكائنات الحية كلما ارتقى المستوى التصنيفي المدروس.

إن التمسك بالشكل المتدرج للتطور في وجه هذا الدليل يستدعي افتراضا إضافيا. لذا فإنَّ على أحدنا أنْ يفترضَ أنَّ عملية تشكل الأحافير في الأزمنة الغابرة كانت أقلَّ قدرةً على حفظ الكائنات المنقرضة من قدرتها على حفظ الكائنات الحية. ويمكن أيضا افتراض أنَّ العمليات الجيولوجية قد مسحت سجل الكائنات المنقرضة فقط دون مسح سجل الكائنات التي ما تزال حية. لكن جميع هذه افتراضات مصطنعة ولا يدعمها الدليل. دليلنا الأفضل يقترح أنَّ عملية تشكل الأحافير قد استمرت بشكل ثابت عبر التاريخ الأرضي الطويل وأنَّ الأحافير دليلٌ متين.

إنَّ غيابَ الأشكال الانتقالية التي تربط مجموعات الكائنات في المستويات التصنيفية العالية من السجل الأحفوري يعد دليلا على عدم وجودها أصلا. إن اشتركتْ شُعْبتان من شُعَبِ الحيوانات بسلف واحد (كما يفترض داروين عن وجود شجرة الحياة الكبرى التي تشمل كل الكائنات الحية بعلاقة سلف/ عقِب)، فلا بُدَّ من وجود عدد هائل من الرتب والعائلات المنقرضة التي تشكل المراحل الانتقالية بين هاتين الشعبتين. وحين نأخذ بعين الاعتبار نسبة التحجّرfossilization على مستوى الرُّتَبِ والعائلات فإنَّ وجود مثل هذه الأشكال الانتقالية كان لا بُدَّ أنْ تكون ممثّلة في السجل الأحفوري. هل يعني ذلك عدم وجود أي من تلك الأشكال الانتقالية بالنسبة لشعب الانفجار الكامبري أصلا أمْ أنَّه لم يُحالفنا حظ العثور عليها بعد؟

3. 5 نقص عمليات البحث:

يقودُنا هذا إلى التفسير التالي لندرة الأحافير الانتقالية: نقص عمليات البحث عنها. يقتضي الادِّعاءُ القائل بأنَّ نقصَ عمليات البحث هو سببُ ندْرَةِ الأحافير الانتقالية قبول فكرة أنَّالسّجلَّ الأحفوريَّ المحفوظَ في الأرض كامل -على الأقل بالنسبة للمستويات التصنيفية العالية- والمشكلة في أنَّ العلماءَ لا يصرفون الجهد الكافي لإيجادها. أي أنَّ الأحافيرَ الانتقاليةَ موجودةٌ تنتظر من يكتشفها. قد يبدو هذا التعليل مقنعا في أيام داروين، لكنه ليس كذلك اليوم. وكما ذكرنا سابقا، أنماطَ اللافقاريات الأساسية تظهر فجأة في مطلع العصر الكامبري. ورغم الجهود العظيمة المبذولة من قبل علماء الأحافير خلال القرن والنصف التالي لداروين لكشف الروابط -الأشكال الانتقالية- بين هذه الكائنات لم يستطعْ أحدٌ اكتشافَهذه الروابط. يجب أنْ يستوقفَنا هذا النقصُ. لقد كان داروين يعلم عن الصخور الكامبرية. كان يكفي استثمار جهد يسير في دراسة الأحافير لاكتشاف حدوث الانفجار الكامبري. وأيضا لم تُقدم الجهودُ العظيمةُ في علم الأحافير أي فكرة يمكن أن تُبصِّرنا حول افتراض وجود أسلاف متقدمة للانفجار الكامبري.

يقول مايكل دنتن:”في زمن داروين لم يكن يوجد أي أحافير لما قبل 600 مليون سنة. لكن منذ ذلك الحين اكتشفت العديدُ من الأحافير وحيدة الخلية والجرثومية في صخور يعود تاريخها لبضعة مليارات من السنين السابقة للعصر الكامبري، وتم التعرفُ أيضا على عدة أنماط جديدة من الكائنات التي لم تكن معروفة منذ مائة سنة في (Burgess Shale و Ediacara) في الصخور الكامبرية وما قبل الكامبرية. لكن لم يسلّط أيًّا من هذه الاكتشافات الضوء على أصل أو علاقات شعب الحيوانات الأساسية. تثبت المجموعات المجهولة المكتشفة حديثا، سواء كانت حية أو متحجرة، بشكل مطّرد أنها مميزة ومنفصلة ولا يمكن أنْ تُفسرَ بكونها روابط انتقالية بالطريقة التي تتطلبها النظرية التطورية.(18)

لا يمكن القبولُ الآن بأنَّ سببَ ندرة الأحافير الانتقالية هو عدم كفاية البحث (وخصوصا في المستويات التصنيفية العالية مثل شعب الحيوانات). يمكن لأحدنا أنْ يحتجَّ باستحالة القيام ببحث شامل لكل طبقات الصخور الأرضية ويبقى احتمال اكتشاف الروابط الانتقالية يوما ما أمرا ممكنا. لكن البحوث الشاملة لمناطق رسوبية معينة قد أجريت بالفعل حيث يُعتقد وجود الأشكال الانتقالية. فحتى في هذه الظروف المفضلة فشل علماءُ الأحافير في اكتشاف الروابط المفقودة التي تربط الكائنات الحية في المستويات التصْنيفيَّة العليا. من العدل أنْ نقولَ أنَّ علماء الأحافير قد شغلوا أنفسهم بجهود ملحمية لاكتشاف الروابط المفقودة باحثين في آلاف السفوح الرسوبية وفي أطنان الصخور الصلبة (ليس فقط الحجار الرملية أو الصخور الطينية بل حتى في صخور الكوارتز التي تحتاج لتقطيعها إلى شرائح رقيقة).

نستنتج أنَّ ندرةَ الأحافير الانتقالية لا تعود لنقص متأصِّلٍ في السجل الأحفوري، ولا إلى قلّة الجهود المبذولة لاكتشافه. يضع مايكل دنتون بصمته على هذه المشكلة فيقول:

إن المشكلة الأساسية التي تعترض تفسير الفجوات بقلة الجهود المبذولة أو بالنقص المتأصل في السجل هي تكررها على نحو منتظم - الحقيقة المتمثلة في أن الأشكال الانتقالية بين المجموعات التصنيفية الكبرى أقل مما هي عليه فيما بين المجموعات التصنيفية الصغرى تنطبق هذه القاعدة بشكل شامل على كل الممالك الحية وكل أنماط الكائنات بنوعيها: شديدة الميل للتحجر كالرخويات أو قليلة الميل لذلك كالحشرات. لكن هذا هو عكْسُ ما يتطلبه التطور الدارويني. قد نستطيع تفسير الانقطاعات بحجج من مثل أخطاء الاعتيان لكن السمة العامة للانقطاعات تنفي كل تلك التفسيرات“.(19)

يبدو أنَّ السجل الأحفوري ليس ناقصاً إلى الدرجة التي يودّها التطور الدارويني ليتم لهم تفسير فقدان الدليل.ص 72″ زيادة على هذا، لقد اتسع الآن مجال البحث في السجل الأحفوري، وبالتاليلا يوجد سبب وجيه يجعلنا نترقب ظهور بعض الأبحاث الحفرية الجديدة التي يمكن أن تقلِب النمط العام للفجوات بين التقسيمات الرئيسية الحالية للكائنات المتحجرة رأساً على عقب. في الحقيقة يستمر ملء الفجوات على مستوى التصنيفات الصغرى بمعدل جيّد مع ظهور الأدلة من أحافير الحيتان والسلاحف والفيلة. لكن بدلا من إثبات هذه الكشوف لنظرية داروين في التطور المتدرج فإنَّها تنفيها نظرا لكون اكتشاف رابط بين المجموعات الجزئية يتطلب اكتشاف مئات الروابط بين المجموعات التصنيفية الكبرى.


6.3 التوازن المتقطع(Punctuated Equilibrium):

يبدو أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ نظرية داروين هي الإقرار بخطأ داروين عندما قال أن العمليات التطورية متدرجة ومستمرة. وبدلا من سير العمليات الداروينية زحفا فإنها تسير قفزا. يبدو ذلك جليا في محاولة ردم الفجوات بين المجموعات التصنيفية الأساسية. لذا فإن علينا أن نتوقع وجود الفجوات في السجل الأحفوري لأن الكائنات الحية قد تطورت بسرعة لم تسمح بحفظ الأشكال الانتقالية بشكل جيد.

مثَّل داروين تطور الحياة بشجرة متفرعة تدريجيا (تذكر الشكل 2.3). هناك تصور آخر للحياة يعرف بالتوازن المتقطع تتحرك فيه عملية التطور بالقفز. تمثَّل نظرية التوازن المتقطع في التطور -كما طرحها أول مرة كل من نيلز إيلدريدج وستيفن غولد- بشجرة فروعها مستقيمة للأعلى وتظهر إلى جانبها فروع بشكل مفاجئ (الشكل 8.3). تمثل الخطوط العمودية في الشكل حالة الثبات التي تبقى فيها الأنواع ثابتة خلال فترة زمنية طويلة -وهو ما يرمز له بالتوازن-. بالمقابل تمثل الخطوط المنقطة التغيرات التطورية السريعة4التي تربط المجموعات الرئيسية من الكائنات، وهي سريعة لدرجة أنها لا تحفظ بالسجل الأحفوري -هذا هو معنى المتقطع-.




(الشكل3-9) نمط التفرع في شجرة الحياة كما في التصور التقليدي B، وكما في تصور مناصري نظرية التوازن المتقطع A.



وفقا لنظرية التوازن المتقطع فإنَّ الوضع الطبيعي هو ثبات النوع، وينحرف هذا التوازن في المجموعات الصغيرة بسبب التغيرات التطورية السريعة. من المفترص أن تنشأ أنواع جديدة في المناطق المعزولة عن الجماعة الأم. لذا تظهر الأنواع الجديدة لبرهة قصيرة في الزمن الجيولوجي تدوم عدة آلاف أو عشرات الآلاف فقط من السنين (خلافا لما يفترضه التطور المتدرج من الحاجة لملايين السنين). يصف التوازنُ المتقطِّع حالةً عشوائيةً من التطور أكثر مما تفترضه النظرية الداروينية التقليدية (بتأكيدها على التغير المتدرج الذي يقوم الكائن من خلاله بمراكمة الصفات المفيدة لبقائه على نحو ثابت). تتطور الجماعة الصغيرة في نظرية التوازن المتقطع عبر عدة أنواع تجريبية انتقالية -ممثلة بخطوط قصيرة مقطعة أفقيا في الشكل9.3- قبل الوصول إلى نوع جديد قادر على تشكيل جماعة ثابتة وصالحة لأن تُحفظ آثارها كأحافير.

تؤكد النظريةُ وجودَ الأنواع الانتقالية حقا في فترة من الماضي، ولن يكون بالإمكان ملاحظة أي تغير كبير بين الأبِ وذريته المباشرة -لنْ تلدَ القطةُ فأرا ولا العكس- في هذه الفترة الصغيرة من التطور السريع. سيظل أفراد الذرية مشابهين للآباء وسيكون التغير من جيل إلى آخر متدرجا. يختلف التوازن المتقطع عن الداروينية فقط في أنَّ الكائنات الحية تُبْدي اختلافا هاما بين بداية الفترة القصيرة -بالمقاييس الجيولوجية- ونهايتها. لنحصل على شجرة داروين المتفرعة تدريجيا يجب أنْ يحفظ السجل الأحفوري ليس فقط كل الأنواع الحية بلْ كل أفراد هذه الكائنات.

في نظريَّةِ التوازُنِ المتقطع، لا تترك الأنواع الانتقالية أي أحافير نظرا لعددها الصغير وظهورها بشكل مفاجئ لفترات زمنية قصيرة. وعليه تتنبأ نظرية التوازن المتقطع بأنَّ السجلَّ الأحفوري غير كامل وتطرح تبريرا لذلك: نظرا لتطور الأنواع الانتقالية بسرعة لا تستطيع معها ملء بيئتها فقد كانت أنواعا تجريبية5ولم تستمر لفترة طويلة. تتطور الأنواع الأخرى الثابتة من هذه الأنواع وتتكيف بشكل أفضل وكنتيجة لذلك تنقرض معظم هذه الأنواع التجريبية بسرعة وفي النهاية سيبقى نوع أو اثنان على قيد الحياة وهما مختلفان كثيرا عن النوع الأصلي وسيعمرا البيئة بنجاح. تُحفظ هذه الأنواع المزدهرة والمستمرة فقط في السجل الأحفوري.

في الوقت الذي تفترض فيه الداروينية التطور المتدرج بخطى ثابتة وبطيئة، تفترض نظرية التوازن المتقطع التطور بخطى متسارعة في ظروف معينة ثم تعود الخطى للبطء المعهود في معظم الوقت. التوازن المتقطع هو تطور دارويني يسير بنسق مختلف لكنه يبقى في النهاية تطورا داروينيا. يبغي التوازن المتقطع جمع ميزتين. يريد إثبات التغير السريع الذي ظَنَّ داروين أنَّه يتعارض مع نظريته، وفي نفس الوقت يستعمل نفس آليات التطور الدارويني. يتم الجمع من خلال افتراض التطور المتدرج السريع -من جيل إلى آخر- خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا بحيث لا تترك خلفها آثارا في السجل الأحفوري.

لكن بغياب الإثبات التجريبي للآليات المادية التي تعتمد عليها هذه النظرية في التطور السريع فإنها لا تملك الدليل إلَّا من غياب الدليل الأحفوري الذي وضعت النظرية من أجل تفسيره. حقاً هناك مفارقة عميقة حول قدرة التوازن المتقطع على إيجاد السبب الرئيسي -مدعوما بالدليل- لغياب الأشكال الأحفورية الانتقالية. إذًا لا يُغيِّر التوازن المتقطع من حقيقة عدم وجود أيّ آلية مادية معتبرة من الآليات المقترحة إلى هذه اللحظة من شأنها أن تفسر ظهور المعلومات الوظيفية الكامنة في جميع الكائنات الحية. ينبّه التوازن المتقطع -وقد أصاب في ذلك- على خاصِّيتي الظهور المفاجئ والثبات في السجل الأحفوري. لكنه بتفسيره لتاريخ الحياة على أنه تاريخ مكون من اندفاعات تطورية قصيرة يتبعها فترات ركود تطورية طويلة فإنَّه يتبع نفس نهج الآليات المادية التي تعتمدها الداروينية الجديدة. إنَّ التوازن المتقطع شكل آخر من الداروينية الجديدة وليس نظرية جديدة متكاملة.




استسلام غولد الأخير لداروين

GOULD’S FINAL CAPITULATION TO DARWIN

كان ستيفن غولد، أحدَ واضعي نظريةَ التوازن المتقطع، ميّالا عبر حياته المهنية المتقلبة إلى وضع انتقادات على الداروينية، خاصة جانب تلقي الناس لها بالقبول من غير نقد ومنافحة أتباع داورين المعاصرين عنها. لقد أراد غولد أنْ يصْححَ الأخطاءَ التي لاحظها في الفهم التقليدي لنظرية داروين. إلَّا أنَّ غولد أقرقبل وفاته -عام 2002م- بأن الآلية التي وضعها داروين في الانتخاب الطبيعي كمحرك أساسي للتطور قد أصابت كَبِدَ الحقيقة.

كتب غولد العديدَ من الكتب كان آخرها الكتاب الضخم بعنوان (ِبنْية النظرية التطورية) بعدد صفحات يبلغ 1400 صفحة. استهل غولد كتابه بالعبارة الحاسمة التي اعتبر فيها أنَّ الانتخاب الطبيعي هو الطريق الوحيد لتفسير التعقيد التكيفي المنظم أو ما سمَّاهُ بــ التصميم المعقد المتقن للكائنات” (20) فقال:

لا أُنْكرُ جاذبية التعقيد التكيفي المنظَّم ولا أهميته القصوى. أعترف بأننا لا نعلم أيَّةَ آلية تفسر هذه السمات لدى الكائنات سوى الانتخاب الطبيعي العشوائي على مستوى الكائنات الحية. وإن محض التعقيد والتفصيل الباديين في التصميم الحيوي-الكميائي الحَسَن ليستبعدان بشكل مؤكد أيّ إنتاج عشوائي له أو حتى حدوثه كناتج جانبي للعمليات الفعَّالة على مستويات أخرى.(21)

كرَّرَ غولد نفسَ الفكرة لاحقا في نفس الكتاب:

لا نختبر فعاليَّة الانتخاب في الكائنات ولا حتى أهميته المطلقة. وكما ناقشت سابقًا فإنَّني أتفق بالكلية مع دوكنز 1986م وغيره بأننا لا نستطيع أنْ نلجأَ إلى قوة من مستوى أعلى –كالانتخاب النوعي- لتفسير ما تقوم به الكائنات، وأقصد هذا الطيف الأخَّاذ لتكيف الكائنات الحية، والذي حرّك مشاعرَ الافتتان بالعالَم الطبيعي، ووصفه داروين في واحد من أشهر سطوره المكتوبة (1859م، صفحة3) بقوله:تلك البُنى الكاملة وذلك التكيف المشترك اللذان يبعثان فينا شعوراً مُستحقاً بالإعجاب.(22)

لقد كان غولد في العقْدَيْن الأخيرين من حياته على خلافمع ريتشارد دوكنز -التطوري من جامعة أكسفورد - حول أوليةالانتخاب الطبيعي في عملية التطور. لقد اشتعل الجدل بينهما لدرجة أنْ كيم ستيريلني -محرر مجلة علم الأحياء وفلسفته- كتب كتابا كاملا بعنوان (غولد في مواجهة دوكنز - البقاء للأقوى).(23) وقد كان دوكنز محقا في وصف ملاحظات غولد في كتابه الأخير (بالاستسلام التام). اعترف غولد بأنَّ كل شيء يهم دوكنز حول البنى الحيوية ونشأتها ووظيفتها وتعقيدها وأهمية تكيفها ماهو إلا نتيجة الانتخاب الطبيعي. لقد كان غولد داروينيا بنفس قدر داروينية دوكنز.




7.3 الظهور المفاجئ:

هناك رأْيٌ رابعٌ لتفسير الفجوات في السجل الأحفوري إلى جانب التعليلات المحتملة ككلامهم عن النقص المتجذر في السجل، ونقص عمليات البحث، والتوازن المتقطع، يوجد بالإضافة لما سبق: الظهور المفاجئ. لتفسير الفجوات في السجل الأحفوري يفترض دعاة الظهور المفاجئ أنَّ الفجوات حقيقيَّةٌ وأنَّ الفجوات في السجل الأحفوري تمثل انقطاعات في تاريخ الحياة. لا يكتفي الظهور المفاجئ بالقول: إنَّ الكائنات الانتقالية المفترضة بين المجموعات التصنيفية الكُبْرى غيرُ موجودة في السجل الأحفوري، بل يقول: إنها لم تكن موجودةً قط.

إنَّ الظهورَ المفاجئ هو الوصف الظاهري للسجل الأحفوري. إنَّه يقدم دليلا واضحا لسبب غياب الأشكال الأحفورية الانتقالية. ولكنَّه يستدعي طرح سؤال مباشر: كيف ظهرت الابتكارات الحيوية لأول مرة -سواء بشكل مفاجئ أو غير مفاجئ-؟ تفترض نظرية التطور الحيوي المادية وجود آليات مادية تؤدي إلى ظهور هذه الأشكال الحيوية. لكننا نبقى في نفس الإشكالية، فهذه الآليات الداروينية -الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على التنوعات العشوائية- لا تكفي نظريا ولا تجريبيا لتكونَ سببًا لنشوء المعلومات الوظيفية الموجودة في الأنظمة الحيوية.

تُظْهِرُ ندْرةُ الأحافير الانتقالية في السجل الأحفوري (وخصوصا الغياب الكامل للروابط بين المجموعات التصنيفية الرئيسية الكبرى كالشعب) العجزَ في النظريات التطورية الحالية. لو كانت مثل هذه الآليات كافيةً سببيًّا لتقود مثل هذا التطور الحيوي الكامل، لظهرت الأشكال الانتقالية في السجل الأحفوري. وينطبق ذلك أيضا على نموذج التوازن المتقطع: قد تستطيعُ شرْحَ سبب غيابِ الأشكال الوسيطة بين الأنواع والأجناس من السجل الأحفوري، لكنها لا تستطيع تفسير غيابها بالنسبة للمستويات التصنيفية الأعلىكالشعب، لأنَّ تطورا يعتمد مبدأ التوازن المتقطع سيتطلب وجود أشكال انتقالية للمستويات التصنيفية العليا في السجل الأحفوري.

حاولنا سابقًا تفسيرَ غياب الأشكال الانتقالية من السجل الأحفوري بافتراض أنَّها كانتْ موجودةً في الحقيقة، وحان الوقت الآن لنقلب السؤال. افترض أنَّ الظهور المفاجئ صفة حقيقية في كل من السجل الأحفوري وتاريخ الحياة نفسه، أيْ أنَّ الأشكال الانتقالية بين المجموعات التصنيفية الرئيسية لم تكن موجودة على الإطلاق في هذه الحالة. ما الذي حدث إذًا لتظهرَ الأشكالُ البيولوجيَّةُ عاليةَ التعقيد والتنوع؟ وطالما تحوَّل السؤال إلى هذه الصيغة، فإنَّنا عندها لا نسْأَلُ عن سبب أو أسباب كل هذا التنوع والتعقيد في الكائنات الحية وإنما نسأل عن شريط الفيديو الذي سجل تاريخ الحياة والأحداث الأساسية فيه. هناك أربع احتمالات:


  1. التشكل اللاّحيوي Nonbiogenic formation: تتشكل الكائنات الحية دون وجود كائنات حية أخرى كانت سببًا مباشرًا لذلك، وبدلا من أن تنتج الحياة من الحياة، تنتج الحياة من اللاحياة6.



  2. إعادةُ تنظيم التعايش الحيوي Symbiogenic reorganization: تظهر الكائنات الحية باجتماع عدة أنواع حية، معيدة تنظيم نفسها في كائن حي جديد.



  3. إعادة الاختراع حيوي المنشأ Biogenic reinvention: تعيد الكائنات الحية اختراع نفسها من جديد. تملك الكائنات الحية قبل هذه الخطوة سمات شكلية ووراثية محددة، في حين تملك مجالا واسعا من الاختلافات في هذه السمات بعد إجراء هذه الخطوة.



  4. التَّطافر التوالدي Generative transmutation: تُنتج الكائنات الحية أثناء تكاثرها ذرية تختلف بشكل كبير عنها.


لا تستغرب أي واحدة مما سبق. فقد حدث التشكل اللاحيوي مرة واحدة على الأقل، إنَّها بداية الحياة. في حين ركزت أعمال Lynn Margulis على فكرة إعادة تنظيم التعايش الحيوي ووُجدت بعض الأدلة على ذلك. فالعديد من الكائنات الحية هي توليفة من الكائنات الأخرى في الحقيقة. فمثلا تتألف الإشنيَّات التي نراها على الصخور والأشجار في الواقع من اندماج فطر مع طحلب أخضر قادر على التصنيع الضوئي. دع الأشنَّةَ في الظلام وسيبقى الجزءُ الفطري حيًّا فقط أو ضعْ الأشنة في الماء وسيغرقُ الجزء الفطري وستنمو الطحالب وتزدهر.

ليس إعادة الاختراع حيوي المنشأ (تغير الكائنات الحية عبر الزمن) مستبعدا أيضا عند الأخذ بعين الاعتبار دورات حياة بعض الكائنات الحية التي تختلف كليا من مرحلة عمريّة إلى مرحلة أخرى. تخيل عملية الانسلاخ في الفراشة. إنْ لم تكنْ تعلم أنَّ الفراشة تمر بمرحلة الشرنقة أثناء نموها فإنَّك ستعتبرها كائنا آخرَ مختلفًا بالكلية. نفهم من هذا أنَّ الفراشات تعيد اختراع نفسها من جديد. يحدث هذا النوع من إعادة الاختراع خلال دورة حياة الفرد الحي، لكن ماذا لو حدث هذا التغير على سلالة كاملة من الكائنات الحية أيْ أنَّ هذه السلالة كانت تمْلكُ سماتٍ معينةً قبل هذه الحادثة ثم تمتلك خواصًّا أخرى مختلفةً تماما بعد هذه الحادثة؟ توجد أدلة ضئيلة الآن على هذه الإمكانية، لكنها تبقى إمكانية غير مكتشفة بشكل جيد حتى الآن.

لدينا أخيرا مسألةُ التطافر التوالدي، والتي هي نمطٌ من إعادة الاختراع حيوي المنشأ. يعيد الكائن الحي في هذه الحالة اختراع نفسه في وقت التكاثر بإنتاج سلالات تختلف جدًّا عنه. لذلك بدلا من إعادة اختراع نفسه بتغيير دورة حياته الخاصة، فإنَّه يقوم بإعادة الترتيب في ذريته الناتجة. اهتم عالم الوراثة ريتشارد غولدشميدت Richard Goldschmidt،من جامعة بيركلي،بهذا الاحتمال في أربعينيات القرن العشرين، مُطلقًا لقَب(المسخ الواعدhopeful monster ) على الذرية الطافرة.

ماذا علينا أنْ نفعل بهذه الاحتمالات الأربع؟ تقترح الاحتمالات الأربع نظرة مبرمجة للظهور المفاجئ، كما يفعل البرنامج الحاسوبي الذي يظهر فجأة في وقت معين (تَذكَّر فيروس مايكل أنجلو الذي اقتحم أجهزة الحواسيب في 6 مارس 1993م) وهنا تتغير الكائنات الحية بشكل مفاجئ في جيل واحد. احتجّت عالمة الأحافير الفرنسية Anne Dambricourr Malasse مثلا بأنَّ التطافر التوالدي (الذي سمَّتْهُ بالحتمية الديناميكية للتخلق dynamic ontogenetic determinism) قد أدَّى إلى نشوء الإنسان العاقل وأنَّه كان مبرمجا ليحدث ضمن الأنواع في أوقات محددة.(24) نحن في غِنًى عن القول بأنَّ البرمجة تشير إلى مبرمج وبالتالي إلى التصميم.

كيف لنا أنْ نفهمَ هذه الاحتمالات الأربعة في ضوء التصميم الذكي؟ من المقطوع به أن هذه الاحتمالات لا يلغي بعضها بعضا. فيمكن أنْ تشتركَ جميعُها في إنشاء التاريخ الطبيعي. وأيضا إنْ حدثت إحدى هذه الاحتمالات في الواقع فإنَّها ستفسرُ غيابَ الأشكال الانتقالية بين المجموعات التصنيفية الكبرى في السجل الأحفوري. ستغيب الأحافير الانتقالية في هذه الحالة لأنَّ الأشكالَ الانتقالية لم تكن موجودة أصلا على الأرض. ومع ذلك، يكاد يتعذّر الجمع بين هذه الاحتمالات الأربع والتفسيرات التطورية التقليدية لأصل الحياة وازدهارها فيما بعد. لا نعلم أيَّةَ آلية مادية تستطيعُ تفسيرَ التغيُّرات الهائلة في الكائنات الحية التي تتطلبها ثلاثة من هذه الاحتمالات (ما عدا إعادة تنظيم التعايش الحيوي). استقلالاً عن التصميم الذكي، يبدو أن هذه الاحتمالات الثلاث تتطلب جرعات هائلةمن الحظ السعيد. على نحو مُماثل، واستئناساً بالمثال الذي أورده الفلكي فرد هويل ذات يوم،يمكن لأحدنا أنْ يأملَ بأنْ يقوم إعصار في حديقة تكتظ بالخردة بتجميع طائرة بوينغ 747.

لنلقي نظرة أعمق إلى هذه الاحتمالات الثلاث. يتطلب التشكل اللاحيوي ظهورَ كائن حي كامل أو بنيةٍ حيوية من مادة غير حية بالكامل. لن يكونَ التمثيل بالإعصار في حديقة الخردة أكثرَ ملاءمةً من هذا. لا يشابه التعقيد الوظيفي المشاهد في الأنظمة الحية أيّ تعقيد آخر موجود في الأنظمة غير الحية، والانتقال المفاجئ من شكل جامد إلى شكل حي من غير تصميم ذكي يكافئ الإيمان بـ صدفة الفجوات7. ببساطة، هذا تخلّ عن العمل الجاد للعلم وتوسّلٌ بالصدفة.

لا أيّ من إعادة الاختراع حيوي المنشأ ولا التطافر التوالدي يُبلي بلاءً حسناً هنا، وذلك لنفس الأسباب التي رفضتْمن أجلها وجهات نظر كلٍّ من أوتو شيندوولف Schindewolf وريتشارد غولدشميدت Goldschmidt من قبل المجتمع العلمي الأحيائي. لا يوجدُ أيُّ سبَبٍ يدعونا لقبول إنجابِ حيوانٍ زاحفٍ لحيوانٍ طائرٍ قافزا فوق تلك التغيرات الهائلة في أوقات محددة وبطرق محددة من غير افتراض برمجة ذكية لذلك.

بقي علينا مناقشة فكرة إعادة تنظيم التعايش الحيوي. قامَ عدَدٌ من علماء الأحياء البارزين مؤخرًا بالدعاية لوجهة النظر هذه على أنَّها المفتاح للظهور المفاجئ. إنْ استطاعَ كائنٌ حيٌّ أنْ يمتلكَ جينوما متوافقا مع جينوم كائن آخر فسيحدثُ بينهما تغيُّر تشاركيٌّ كبير. ركزت أعمال Lynn Margulis’s على هذا التهجين لعدة سنوات.(25) ورغم أنَّها قدَّمَتْ دليلًا على حدوث عدة حالات مهمة من إعادة تنظيم التعايش الجيني إلا أنَّها لم تقدِّمْ سوى مسوَّغٍ طفيفٍ لقبول هذه العمليَّة كحلٍ تامٍّ لمشكلة الظهور المفاجئ. يمكن لإعادة تنظيم التعايش الحيوي في أحسن أحواله أنْ يخلطَ الصفاتِ الموجودةَ من قبل أصلًا، لكنه لن يخلق شيئًا جديدًا، إذ اختراعُ الأشياء المبتكرة بعيدُ المنال. أيضاً، الظهور المفاجئ لأي ابتكار حقيقي هو ما بالضبط ما يفتقر إلى تفسير.

بالرغم من أن الكثيرين ينظرون إلى الظهور المفاجئ على أنَّه اختراعٌ مُعْجز، إلَّا أنَّه تجدر الإشارة إلى أنالظهورَ المفاجئَ متوافقٌ أيضًا مع البداية غير المعجزة لنشوء الحياة وتطورها اللاحق. عندما تظهر الكائنات الحية الجديدةُ والبُنى الحيويةُ الجديدة -سواء بشكل مفاجئ أو لا- فلا مانعَ من امتلاكها تاريخًا سببيًّا متماسكًا زمانيًّا ومكانيا، أيْ لا يشترطُ أنْ يكونَ التصميمُ الذكيُّ مسؤولًا عن نشوء الحياة بطريقة سحرية ولا حتى أنْ يكون نشوءُ الحياة كلِّها في لحظة واحدة ودون أسباب وجيهة. ينفتح التصميم الذكي على إمكانية امتلاك الكائنات الحية والبُنى الحيوية تاريخا سببيا طبيعيا. وينفتح في نفس الوقت على احتمال أن الذكاء كان ضالعاً بشكل جوهري في تاريخ الحياة ولاعبا أساسيا في توجيهها. ثم هو أيضاً يعتبر ذلك التوجيه قابلًا للرصد من خلال آثاره حتى وإنْ لمْ يكنْ قابلا للرصد أثناء عملية الظهور نفسها.

لنفهم هذه النقطة سنتخيل قطعَ لعبة السكرابل8التي تتحرك وتنظم نفسها بنفسها لتشكل جملة إنكليزية مترابطة. إنْ نظرْنا إلى حركة كل قطعة من قطع اللعبة بشكل منفصل فلنْ نرى أيَّ أثر للذكاء في هذه الحركة، وإنْ نظرنا إلى الحركة الجماعية للمكعبات قبل أنْ تصلَ إلى الترتيب النهائي وتتوقف فقد لا نصل إلى اكتشاف أثر للذكاء أيضا. لكن بمجرد توقف القطع وتشكيلها للجملة الإنكليزية المترابطة فلنْ نملكَ خيارا سوى الإقرار بأنَّ الذكاء هو الذي كان يوجهها. لاحظ أنَّ للقطع المشكلة للجملة الإنكليزية وكذلك لحركتها تاريخٌ يمكن تتبعه بالكامل، أيْ أنَّ القطعَ لم تختفِ فجأةً من مكان لتظهر في مكان آخر بشكل يخرق قوانين الفيزياء، غير أنَّ التشكيل الأخير للكلمات لا يمكن تفسيره دون اللجوء للذكاء. ومثل ذلك جرى في تاريخ الحياة، حيث لا تحتاج الكائنات الحية الجديدة والبنى الحيوية المبتكرة لظهور خارق لقوانين الطبيعية، ويمكنُ أنْ نتتبع تاريخَها الطبيعيَّ بشكلٍ كامل. مهمة التصميم الذكي أنْ يحددَ أثَرَ الذكاء في التاريخ الطبيعي ويميِّزَه عن القوى المادية التي تحركه.

8.3 استخدام الأحافير في تتبع السلالات التطورية:

يقومُ التطوُّرُ بربط النِّقاط المنْفَصِلَةِ ببعضها. تمثل النقط الكائنات الحية وتمثل الروابط العلاقات التكاثرية. لا بُدَّ لربط النقاط ببعضها بشكل معقول أنْ تكونَ قريبةً من بعضها، وهذا هو التفسير الذي يوَضِّح مشكلةَ وجود الفجوات، والروابط المفقودة من السجل الأحفوري، والتي تقفُ عائقًا في وجه التطور. لا يهتم الداروينيون بهذه الانقطاعات كعقبات تهدد نظريتهم وإنَّما ينظرون إليها كفرص تثبت النظرية في حال اكتشاف ما يملؤها، وبالتالي يعتبر اكتشاف حلقة وسيطة انتصارا لنظرية التطور9.

وفقا لبعض الداروينيين فإنَّ الانتصار الأعظم هنا هو اكتشاف الزاحف الأشبه بالثدييات. ووفقا لكتاب دوغلاس فوتوياما في الأحياء التطورية:

إنَّ نشأةَ الثدييات من الحيوانات السلوية البدائية (صف واسع من الفقاريات يشمل الزواحف والطيور والثدييات) عبر زواحف شبيهة بالثدييات هو بلا شك المثالُ الأكْمَلُ والأجملُ والمدروسُ لتطوُّرِ مجموعة تصنيفية أساسية. ليس هناك حالةٌ أخرى تحفظ فيها عدة مراحل تطورية كما تحفظ هنا. تنفي نشأة الثدييات ادِّعاءاتُ الخلقيين بفشل الأحافير في إثبات التطور. بل إنَّها تظهر كم الصفات التي يمكن أنْ تتغيَّرَ لتشكل وظيفة جديدة“.(26)

وصف فوتوياما بعد ذلك سلسلة من الأشكال الانتقالية المفترضة التي تظهر تغيرا تدريجيا في الهيكل العظمي والتشريح والحركة الانتقالية والهضم وعادات الطعام والأسلوب العام في الحياة على مدى 150 مليون سنة. وادَّعى إمكانية تتبع هذه التغيرات في السجل الأحفوري وبدرجة جيدة من التفاصيل. ونلاحظ هنا الإشارة إلى أنَّ عظامَ فكِّ الزواحف قد تحولت تدريجيا إلى العظام الدقيقة لأذن الثدييات.

لكنَّ الأمورَ ليست بالوضوح الذي يدَّعِيهِ فوتوياما. وفقا لعلماء الداروينية فإنَّ حيوانا زاحفا شبيها بالثدييات يدعى (تيرابسيد) يلْعبُ دوْرًا هاما في الانتقال من الزواحف إلى الثدييات (على مستوى الصفوف). ومن بين السلالات الناتجة عن التيرابسيد كانت الفقاريات التي هيْمنتْ على الأرض كفقَّاريات أرضية منذ منتصف العصر البيرمي وحتى منتصف العصر الترياسي.(انظر الشكل 3- 10). يصف عالم الأحياء التطورية James Hopson سلسلةً من ثماني جماجم للتيرابسيد تشكل تسلسلا لأشكال انتقالية من واحدة لأخرى، مفترضا بالتالي أنَّها تؤدي إلى الجمجمة التاسعة التي يمتلكها الثدي البدائي المعروف بالموغانوكودون.(27)

وصف هوبسون عدة ميزات تحملها السلسلة لتبدو مترقية باتجاه شكل جسد كائن ثديي:


  1. تغير في طريقة اتصال الأطراف.



  2. زيادة حركية الرأس.



  3. اندماج الحنك.



  4. تحسن قدرة الفك على المضغ.



  5. هجرة العظام المفصلية والمربعة من خلف فك الزاحف إلى الأذن الوسطى (تحولت إلى عظيمات سمعية لدى الثدييات).


يُفترض أنْ يثبتَ التَّحولُ المتزامن لهذه الصفات أنَّ التيرابسيد يتّصلُ بالثدييات بسلالة مستمرة (بالطبع لا تسجل الأحافير كل الاختلافات الكبيرة في العديد من الأجهزة كالأجهزة التناسلية وجهاز الدوران ولا حتى الأعضاء الداخلية ولا الغُدَد ولا الأنسجة الرخوة التي فيها).

كما يجري دوماً في مثل هذه الحجج والنقاشات، ما يقدّمه هوبسون في الواقع هو سلسلة بنيوية، وليس سلالة. لقد خمن أنَّ سلسلةَ زواحف شبيهة بالثدييات مرتبةً على أساس الشَّكْل ستشكل سلسلة تكاثرية عبر الزمن الجيولوجي.(28) تبرز هنا عدة تناقضات، فالكائنات الثلاثة الأولى التي ذكرها هوبسون متعاصرة ومن رتبتين مختلفتين. هذا وينازع علماء الأحياء التطورية أيضًا في كون بعض التيرابسيد الذين ذكرهم هوبسون في قائمته أسلافا للثدييات أصلا. وأيضا هناك مشكلةٌ في التوافق بين الحصول على التشابه البنيوي مع الترتيب الزمني. أيْ أنَّ الترتيب وفق التدرج البنيوي يميل التخلص من مشاكل الترتيب الزمني. فالتيرابسيد الرابع مثلا من قائمة هوبسون أحدث من الخامس والتيرابسيد الأخير أحدث من الثدييات نفسها –مورغانوكودون- التي يفترض أنَّه سلفها. يمكن الالتفاف على هذه الاعتراضات بافتراض أنَّ الأسلافَ البنيويةَ هي أسلافٌ زمنيَّةٌ ولكن السجل الأحفوري -نظرا لكونه غير كامل ولعدم كفاءة البحث- يفشل في الإشارة إلى الزمن الذي ظهرت فيه هذه الكائنات لأول مرة. إن هذا الافتراض مُتكلّفٌ تماماً.



(الشكل 3-10) إعادة تركيب زاحف شبيه بالثدييات.


إنه ليجوز لنا أنْ نجمعَ سلاسل شكلية لتقييم تشابه الجماجم مع بعضها (لكن اعلم أنَّ التشابهات الشكلية المأخوذة من الأحافير لا تخبرنا بشيء عن القرابة الجينية). لكنه لا يجوز لنا أنْ نضعَ سلاسل التشابهات الشكلية ونصرّحَ أنَّها تشكل سلالة تكاثرية واحدة (سلالة تطورية). هناك العديد من أنواع التيرابسيد في السجل الأحفوري. ووفقا لدوغلاس فوتوياما فإنَّ أمثلة الانتقال التدريجي من زواحف التيرابسيد إلى ثدييات موثقة بشكل وفير بفضل العدد الكبير من الأنواع في كل خطوة انتقالية لدرجة يستحيل معها أنْ نقولَ: إنَّ نوعا معينا من أنواع التيرابسيد هو السلفُ الحقيقيُّ للثدييات المعاصرة“.(29) وبوجود العديد من الأحافير التي يمكن الاختيار من بينها يمكن ترتيب أحافير التيرابسيد إلى عدة سلاسل يمكنُ أنْ تكونَ مقترحةً كسلاسل تطورية. لكن مجرد عدد هذه الطرق التي تتوخى ترتيب سلاسل أحافير التيرابسيد يصنع من الإشكالات أضعاف ما يقدمه من حلول .

فمثلا لو ظهرت الثدييات من سلالة واحدة من هذه السلاسل فإنَّ السلاسل الأخرى ليست لأسلاف الثدييات. إنَّ وجودَ عدة أنواع غير متقاربة تملكُ نفسَ الخواصِّ الشبيهة بالثدييات كتلك التي يملكها السلف الحقيقي للثدييات يجعل من غير المقنع القولُ بأنَّ هذه الصفات هي الدليلُ على الأسلاف؟ إنْ كانت سمات التيرابسيد الشبيهة بالثدييات مستمرةً في الظهور دون تعلقها بالسلفية المشتركة، فلماذا تعتبر الثدييات منحدرة من التيرابسيد؟ هل تحتاج السمات المشتركة للتفسير الدارويني، هل تقترحه، هل تتفق معه، أم أنَّها مختارة بعناية لتتوافق معه؟ خذ بعين الاعتبار أن بعض الباحثين افترضوا ظهور الثدييات عدة مرات من عدة أنواع من التيرابسيد. لكن من المستبعد جدًا أنْ تكون الطفرات العشوائية قادرة على تشكيل الأجزاء المتكاملة بدقة ومهارة غير اعتيادية كأُذُن الثدييات ولأكثر من مرة عبر التاريخ التطوري.



(الشكل 3-11) جمجمة الزواحف المقسَّمة.


(a) تظهرُ العظمة المربعة بالأحمر والعظمةُ المفصلَّية بالأزرق مكانَ التقاء الفك العلوي بالسفلي.

(b) تظهرُ إعادةُ توضع هذه العظمات وفقا للنظرية الداروينية إلى الجسر المطرقي الركابي بالأزرق والسندان بالأحمر في الأذن الوسطى لدى الثدييات (after .Romer)

تعالوا لنختبر هذا التطور المفترض لأذن الثدييات بشكل أدق. تملك جمجمة التيرابسيد وفكَّاهُ السفليَّان عظامًا مشابهة –مناظرة- لتلك الموجودة لدى أوائل الثدييات. يتمفصل الفكان السفليُّ والعلويُّ لدى الزواحف من خلال عظمتين تتوضعُ كلُّ منهما خلفَ الفكين ولا مثيل لهما عند الثدييات. وفقا للنظرية الداروينية فإنَّ هاتين العظمتين قد أعادتا التموضع في الأذن الوسطى للثدييات وفق تغيرات مرافقة للتكاثر عبر الأجيال. (انظر الشكل3-11) يصف علماء الداروينية عظام فك الزواحف كعظام مهاجرة إلى أماكنها الجديدة في آذان الثدييات. لا يوجد أيُّ سجِلٍّ أحفوريٍّ يشيرُ لمثل هذه العملية المذهلة، كما أنَّ كيفيَّةَ قيام العمليات الداروينية -الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على التغيرات الوراثية العشوائية-بتحريكِ العظامِ وتغييرِ مواضعها لا يزالُ مبهما. على واحدة من هذه العظام أنْ تعْبُرَ المفصلَ من الفك السفلي إلى منطقة الأذن الوسطى من الجمجمة. وأيضا فإنَّ على العمليات الداروينية أنْ تقومَ بإعادة هيْكَلَة وصَقْل هذه العظام لتصبح عظاما مختصَّةً ضمن آلةٍ دقيقةٍ تستشعر أدقَّ الأصوات. إنَّ مثلَ هذا التَّغيُّر سيكونُ غيرَ عاديٍّ بحد ذاته، لكن علماء الداروينية يفترضون أنَّ هذا قد حدث أكثرَ من مرَّةٍ واحدةٍ ودون حاجة لأيِّ توجيه ذكي.

إنَّ الدَّليلَ على تطوُّر أذن الثدييات من فكِّ الزواحف ناجمٌ عن موازنة أعداد العظام في كل منهما. لكن العظام مختلفة من كل النواحي بينهما ولا دليل على آلية عمل ذلك بالتطور. لِمَ علينا التفكيرُ إذًا بأنَّ العددَ المتشابهَ من العظام دليلٌ موثوقٌ لاستنتاج التطور الكبروي من الزواحف إلى الثدييات! إنْ كان مجرد التوافق المحض بين أعداد العظام دليلا على التطور الماكروي فكيف لنا أنْ نصرفَ فكرةَ أنَّ العديد من التشابهات الشكلية بين الأنواع التي يتفق عليها علماء التطور ليستْ دليلًا على العلاقة التطورية؟

سنقوم مثلا في الفصل الخامس بدراسة كلٍّ من الباندا الحمراء والباندا العملاقة. يشترك كلاهما في تضخم عظمة الرسغ فيما يُعْرَفُ بالعظم السمسماني الكعبري أو إبهام الباندا كما هو شائع. تُسْتخدمُ هذه العظمةُ في تعريَةِ الخَيْزُرَانِ، الطعام المفضل لكلا نوعي الباندا. إلَّا أنَّ علماءَ التطوُّر يتفقون على أنَّ كلًّا من نوعي الباندا قد تطور من أسلاف مختلفة لا تملك هذه البنية العظمية الخاصة. لقد تطوَّرَ إبهامُ الباندا إذًا مرتين. إنْ كان الاشتراك في بنية عالية التحديد كما في هذا الإبهام لا تشير إلى العلاقة التطورية، فكيف لتوافق عدد العظام بين فكّ الزواحف وأذن الثدييات أنْ يشير إلى علاقة تطورية؟ لا يمكن الاقتناع بأحدهما دون الأخرى. كيف لنا أنْ نثق بعلاقات تطورية مبنية على تشابهات بعيدة (تشابه عدد العظام) إنْ كانتْ التشابهات الشديدة (كإبهام الباندا) لا تكفي لإثبات مثلها.(30) سنعود لمثل هذا السؤال بالتفصيل في الفصل الخامس.


تطور الحيتان

يرى بعض الداروينيين أنَّ الدليلَ الأحفوريَّ على تطور الحيتان دليلٌ ناجحٌ، ويأتي في المرتبة الثانية بعد الدليل الأحفوري على تطور الثدييات من الزواحف الشبيهة بالثدييات. لكنَّ الحقيقةَ أنَّ كلا الدليلين غير مقنعين. يُعتقد أنَّ الحيتانَ قد تطورتْ من ثدييات كانت تعيش على اليابسة. لكن الأشكال الانتقالية التي تشير إلى ذلك لا تزال مفقودة من السجل الأحفوري رغم مرور عدة عقود. لقد كانت أحافير الدوريودون الشبيه بالدلفين والباسيلوسور الشبيهة بالأفاعي معروفة حتى قبل أن ينشر داروين كتابه (أصل الأنواع 1859م) وكانت تعتبر أسلاف الحيتان هذه مائية بشكل كامل.

في عام 1983م، اكتشفت أحفورة لجمجمة حيوان ثدي في الباكستان. سُمِيَ الحيوان بالباكيسيتوس وكان له سماتٌ قريبةٌ من الحوت، ولكن بدا أنَّه كان يعيش على اليابسة.(31) وبالنظر إلى العدد الكبير من التغيرات التشريحية والفيزيولوجية المطلوبة لتحويل ثدي أرضي إلى آخر مائي يحتج منتقدو التطور الدارويني بغياب كل الأشكال الانتقالية بين الثدييات المائية والثدييات الأرضية وهو ما يشكل عقبة رئيسية أمام تطور الحيتان.




في عام 1994م، أعلن عالم الأحافير Hans Thewissen وزملاؤه عن اكتشاف أحفورة لها خصائص وسطية بين الثدييات الأرضية والحيتان. سمي هذا الكائن بالحوت الذي يسبح ويمشي Ambulocetus natans.(32)(انظر الشكل3-12).  وبعد عدة شهور أعاد فيليب غينغرتش وزملاؤه بناء أحفورة أقدم قليلا لها سمات وسيطة بين الأمبولوسيتوس والحيتان المعاصرة وسماها ( Rodhocetus kasrani). (33) (انظر الشكل 3-13) ووجدت وسائط محتملة أخرى.




(الشكل 3-12) Arnbulocetus natans ادَّعى مكتشفوه أنَّه قادر على الحركة المائية باستخدام زوائد تطورت على اليابسة.



(الشكل3-12) Rodhocetus kasrani ادعى مكتشفوه أنه أول حوت سابح في الماء وأحد أفراد رتبة الحيتان.


وصف ستيفن جي غولد هذه الاكتشافات بأنها السلسلة الأجمل من الأحافير الانتقالية التي يمكن لعالم تطور أن يأمل في اكتشافها“.(34) لكن هل سلسلة التدرج الشكلي هذه تمُثِّل بالفعل سلسلة من الأسلاف والأخلاف؟ وفقا لعالم الأحافير بجامعة بركلي ( كيفن باديان) فإن لكل الأحافير في سلسلة الحيتان هذه صفات مميزة لا بُدَّ أنْ تخسرها قبل أن تصلح لتكوين سلسلة أسلاف مباشرين للحيتان المعاصرة. (35) تمثّل كل أحفورة في أحسن أحوالها نهاية فرع لشجرة تطور الحيتان المفترضة.

ونظرا لكون العيِّنات الأقدم تتألف من جماجم وأسنان مشابهة لمجموعة الثدييات الشبيهة بالضباع المنقرضة المعروفة بالميزونيشيان، فقد افترض عالم الأحياء التطورية بجامعة شيكاغو Leigh Van Valen في ستينيات القرن العشرين، أنَّ الحيتانَ الحديثةَ منحدرةٌ من الميزونيشيان. أشارت الدراسات الجزيئية في التسعينيات إلى أنَّ الكائنات الحيةَ الأقربَ للحيتان هي فرسان النهر.(36)”

ما زال عدد من علماء الأحياء التطورية في شك من نظرية انحدار الحيتان من فرس النهر أو ما يعرف بنظرية whippo (كلمة منحوتة من فرس النحر والحوت). وكتب جون هايننغ في (مجلة Science عام 1999م): “تقتضي الخبرات السابقة أنَّ نكونَ حذرين من قبول هذه الفرضيات المثيرة للجدل برحابة صدر. في أكثر الحالات، لا تخلو مثل هذه الادَّعاءات المثيرة للجدل من أن تكون معتمدة على أدلة هشة أو متناقضة حين تُسبَر من خلال فحص أكثر تفصيلا“.(37)

تنطلق نظرية whippo من أحافيرَ منفردةٍ ومن الدَّليلِ الجزيئي. تقترحُ التشابهات الأحفورية أنَّ فرسانَ النَّهر أقربُ تطوريًّا للثدييات ذوات الحوافر زوجية الأصابع كالخنازير والجمال، لكنها بعيدة من الحيتان. في حين تقترح التشابهات الجزيئية أنَّ فرسَ النهر هو الأقربُ تطوريا للحيتان ولكنه بعيد عن الخنازير والجمال. إنْ لمْ يكن التشابه الأحفوري دليلا كافيا على الأسلاف المشتركة، فبأيّ منطق يكون التشابه الجزيئي دليلا على الأسلاف المشتركة؟ لا يوجد سبب مقنع للوثوق بأي من الفرضيتين. بل هناك سبب جيد لإهدار كل منهما.


9.3 إساءة استخدام الأحافير لتتبع السلالات التطورية:

اختبرنا حتى الآن ما يعتبره العديد من منظري التطور المثال الأجود على السلالات التطورية في السجل الأحفوري: الانتقال من الزواحف إلى الثدييات عبر الزواحف الشبيهة بالثدييات. هناك ثلاثُ مشاكلَ رئيسيَّةٍ في هذا المثال وغيره من الأمثلة الأحفورية التي تدل على التطور الدارويني. تكمن المشكلة الأولى في حتمية استخدام البيانات الأحفورية بشكل انتقائي، والمشكلة الثانية في أنَّ التشابه بين الأحافير أو الكائنات الحية قد لا يكون ناتجا عن الإلتقاء في أسلاف مشتركة، والمشكلة الثالثة هي في أن الأحافيرَ غيرُ قادرة من حيث المبدأ على إثبات العلاقات التطورية.


  1. استخدام الدليل الأحفوري انتقائيا:


رأينا في حالة التيرابسيد أنَّ هناك أحافير أكثر شبهًا بالثدييات قد عاشتْ قبْل أحافير أقلَّ شبها بها. لتتبع التسلسل التكاثري التطوري اعتمادًا على السجلِّ الأحفوريِّ يجب على التيرابسيد أنْ تحملَ المزيدَ من التشابهات بمرور الزمن مع الثدييات (الأقل شبها يظهر أولا ثم الأكثر شبها). يحتاج التطور لتتبع أسهم الزمن إذ لا يستطيع الابن إنجاب الأب.

تبرز مشكلةٌ مماثلةٌ في التفاوتات الجغرافية وتتمثل في أنَّ أحافيرَ الكائنات التي يُفترض أنَّها قريبةٌ من بعضها بنيويًّا متباعدة جغرافيا كثيرا. إنْ كان التباعد الجغرافيُّ كبيرا جدًّا فكيف لأحدِ هذه الكائنات أنْ يكون سلفا للآخر. فالتكاثر يتطلب تقاربَ أماكن الآباء، فلنْ ينجب كائنٌ من كائنٍ آخر موجودٍ في نصف الكرة الآخر.

إنَّ التفاوتات الزمانية والمكانية شديدةٌ ومنتشرة. يلتف علماء الداروينية حول هذه المشكلة بافتراض أنَّ الكائنات التي تبدو في السجل الأحفوري متأخرة جداً زمنياً أو بعيدة جداً مكانياً كانت في الواقع قد دخلت السجل الأحفوري مجتمعة في وقت مبكر وعلى نحو متقارب. لكنَّ هذا الافتراض متعسفٌ بالكلية ويتجاهل حقيقة الدليل الأحفوري.

يضع هذا أمامنا مشكلة أكبر وهي ما يسميه العلماء بــ انتقاء ثمار الكرز10. فبوجودِ كَمٍّ كبير من البيانات يستطيع المرء أنْ يوجد أنماطاً بارزة من خلال القيام بمحاولات مختلفة للربط بينها. وهذا نراه في العديد من الأمثلة المضروبة على التطور البنيوي المأخوذ من السجل الأحفوري - بعبارة أخرى، إنها صنعات إحصائية ناتجة عن محاولات مختلفة لتركيب البيانات الأحفورية. إنَّ كمية البيانات الأحفورية هائلة للغاية وإنَّ مجرد ربط بعض البيانات منها بطرق مختلفة أمر ممكن، وقد يوصلنا إلى وضع سلاسل متدرجة وطويلة من الصفات البنيوية.

هنالك نتيجتان إحصائيتان معروفتان تنشأ عنهما مغالطة انتقاء ثمار الكرزهذه. الأولى هي مفارقة يوم الولادة. فعلى الرغم من أن السنة 365، فإننا نحتاج فقط إلى 23 شخصًا عشوائيًا ليشترك اثنان منهما على الأقل في يوم الميلاد نفسه.(38) وسبب ذلك أنَّه لكي نحسب احتمال وقوع ميلاد مشترك، فإن سيتعين علينا حساب كافة الطرق المؤدية لاقتران اثنان من 23 شخصا. وقد تبين لنا أنه سيكون لدينا 253 حالة اقتران، وبالتالي 253 طريقة لذلك، أي لاقتران أي فردين يُحتملُ اشتراكهما في يوم الميلاد نفسه (ليس من قبيل المصادفة أن 253 يشكل أكثر من نصف 365، مما يفسّر أن فرص اشتراك اثنين من 23 أعلى). على منوال هذه المفارقة، وأكثر من أي سبب ضمني آخر، يتيح السجل الأحفوري متحجرات صالحة لأن تتواطأ في الدلالة على تشابهٍ ما، في سمةٍ ما.

أما النتيجة الثانية التي يمكن أن تنشأ عنها مغالطة انتقاء ثمار الكرزفهي التي تُدعى بــ أثر درجالملف“. افترض أنك ادّعيت أن قطعة نقود ما متحيزة بسبب أنك للتو رميتها 10 مرات وحصلت على نفس الوجه في كل مرة. ولكن لكي يسوغ لك هذا الادّعاء، يتوجب عليك أن تذكر عدد المرات التي لم ترم فيها قطعة النقود قبل أن ترميها 10 مرات متتالية. يشير مثال أثر درج الملفللدراسات الفاشلة التي لا تُعلن وتظل محبوسة في درج الباحث. (39)


وكلما كان الدرج الذي تحفظ فيه الملفات أكبر، زادت أعداد الدراسات الفاشلة التي لا يُعلن عنها، وبالتالي يتضاءل سُلطان أي إعلان عن نجاح حاصل. بل حتى مع قطعة نقود عادلة، وبعد عدة آلاف من الرميات، يمكن للواحد منا أن يثق في الحصول على نفس الوجه 10 مرات متتالية. وعليه إذا كان درجك يحوي بضعة آلاف من تقارير الرميات غير المعلنة، فإن إعلانك عن الحصول على نفس الوجه 10 مرات متتالية لا يثبت أن قطعة النقود كانت متحيزة.

يجري مثل ذلك في السجل الأحفوري، فلكل تدرج بنيوي ناجح (كتدرج الزواحف إلى ثدييات) يوجد آلاف الأمثلة الفاشلة وغير المعلنة، قابعة في أدراج علم الأحياء التطوري. إن درج علم الأحياء التطوري، المشتمل على كافة المحاولات الفاشلة لإيجاد التدرج الأحفوري، كبيرٌ جداً. على سبيل المثال، أين هي التدرجات المعتمدة على تشابهات بنيوية، والتي تربط الشعب الحيوانية المختلفة؟ التدرجات التي يجب أن تكون حاضرة إن كانت النظرية التطورية صحيحة بالفعل؟ بالرغم من عمليات البحث المكثفة التي قام بها علماء الأحافير والأحياء التطورية في السجل الأحفوري، فإنه لا يُعرف لهذه التدرجات وجود يُذكر. ونتيجة لذلك نمتلك كافة الأسباب المشروعة للشك في استخدام الأمثلة الناجحةللتدرجات الأحفورية لاستنتاج وجود السلالة التطورية.





  1. قد لا يكون التشابهُ ناجمًا عن الالتقاء في أسلاف مشتركة.


يشير مصطلح التقاربُ convergence في النظرية التطورية إلى نشوء بنيتين شديدتي التشابه من خلال طريقين تطوريين مستقلين بدلا من أنْ تكونا موروثتين من سلف مشترك واحد. ذكرنا سابقًا مسألة إبهام الباندا الحمراء والباندا العملاقة وسنرى العديد من الأمثلة الأخرى عن التقارب في الفصل.5. تعزو النظرية الداروينية التقارب للبيئات المتشابهة التي تُطبق ضغوطًا انتخابية متماثلة منتجة بذلك بنى متماثلة.

ظاهرهذا التعليل غير معقول، نظرا لعدم وجود سبب للتفكير بأنَّ آليات داروين الانتهازية تمتلك القدرة على التمييز الدقيق، والذي من شأنه أن يأذن لها بإنتاج بُنى معقدة متماثلة تفصل بينها بيئات متباعدة لا يؤثر إحداها في الأخرى. إلَّا أنَّ الكائنات الحية تملك سمات متشابهة لأسباب تختلف عن اتحادها في أسلاف مشتركة. فالتقارب أمر واسع الانتشار. نتيجة لذلك، وحتى لو كانت نظرية داروين صحيحة، فإنَّ أحدنا لن يتأكد نهائيا من أنَّ السمات المشتركة المتشابهة في أحفورتين هي نتيجة تحدرها من أسلاف المشتركة أم نتيجة التقارب. إنْ كانت البنى المتشابهة قابلة للتطور مرة بعد أخرى فلن تستطيعَ الأحافيرُ أنْ تميّزَ بين ناتج الأسلاف المشتركة أو التقارب، وسيغدو تتبع السلالات التطورية عبر الأحافير أمرا مستحيلا. بل قد لا تكون التشابهات نتيجة التطور الدارويني كليا. ففي كتابه (لعام 1990م) استخدم عالم الأحياء تيم بيررا صورًا لعدة موديلات من سيارات (كورفيت) من أجل دحض انتقادات وجهت لنظرية التطور الدارويني فقال: “إنْ قارنَّا سيارة الكورفيت موديل عام 1953م مع موديل 1954م ثم مع موديل عام 1955م وهكذا.. فسنحصل على سلسلة من النشوء والارتقاء شديدة الوضوح.”(40) لكن السيارات مصممة وليست منحدرة من بعضها. وبهذا يكون بيررا قد أثبت عكس ما يقصد؛ أي أن سلسلة من التشابهات يمكن أن تنجم عن تصميم ذكي بدلا من التطور الدارويني

سيقوى موقف النظرية الداروينية لو اسْتطاع العلماءُ بيان آلية معقولة -لا مجرد الإشارة إليها - لإنتاج التطور على المستوى الكبروي. لكنهم لم يستطيعوا ذلك حتى الآن. وحتى لو افترضنا أنَّ التدرج البنيويَّ، كما في مثال التعاقب من التيرابسيد إلى الثدييات، هو تسلسل تطوري تبقى الحقيقة الأهمُّ، وهي عدمُ وجودِ آلية معقولة لحدوث مثل ذلك. يمكن لأيٍّ كان أنْ يروي قصةً حول إمكانية تسبب الآليات الداروينية في وقوع التدرج المذكور، لكن هذا غاية ما يمكن الانتهاء إليه: قصة خيالية.

انظر مثلًا إلى تطور آذان الثدييات من فكِّ الزواحف. كيف لمثل عظمتي الفك لدى الزواحف أنْ تهاجرا إلى أذن الثدييات. إن كلمةَ تهاجراليس لها معنى في السياق العلمي. فما هي التغيرات الوراثية والضغوطات الانتخابية التي عملت وكيف؟ هل هي قادرة على إتمام هذا الطريق التطوري؟ لا يوجد أي تفاصيل حول هذا؛ ومن دون تفاصيل بهذه المثابة لن نجد طريقاً لتقييم قدرة الآليات الداروينية على، فضلاً عن مسوؤليتها الكاملة عن، تطوير آذان الثدييات.

قد يقوم ذكاء على قدر كاف من المهارةبتحويل فكوك الزواحف إلى آذان الثدييات، لكن عملية موجهة بالذكاء لن تكون داروينية.


  1. لا تستطيع الأحافير، من حيثُ المبدأ، إثبات علاقة الأسلاف بالأخلاف.


تخيل أنَّك وجدت اثنين من الهياكل العظمية لبشر في نفس الموقع، وأنَّ أحدَهما أقدم بثلاثين سنة من الآخر، فهل نعتبر صاحب الهيكل العظمي الأكبر أبًا لصاحب الهيكل الآخر؟ إنَّ النظر المجرَّدَ للهيكلين لن يكفي لتقرير ذلك، ولا بد من وجود دليل مستقل (نسبي أو جزيئي أو من الأسنان مثلا) رغم أننا في هذه الحالة أمام هيكلين من نفس النوع ويفصل بينهما جيل واحد. إنَّ امتلاكنا لأحافير تمُثّل كل جيل، وكل المراحل الوسيطة بين الزواحف والثدييات (إنْ وجدتْ)، غير كاف مبدئيا لإثبات العلاقات المفترضة بين الأسلاف والأخلاف.

في عام 1978م،كتب غاريث نيلسون، خبير الأحافير بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك، أن فكرة الذهاب للسجل الأحفوري من أجل الحصول على استنتاج تجريبي لعلاقة السلف-الخلف بين الأنواع، والأجناس، والعائلات، أو كل ما كان، أو ما يمكن أن يكون، ما هي إلا وهم خبيث“(41)

أما هنري جي، المحرر العلمي في مجلة الطبيعة، فلا يشك في التطور الدارويني، ولكنه يعترف أيضاً بأننا لا نستطيع استنتاج الانحدار مع التغير من الأحافير. وكتب في عام 1999م: “لا تدفن الأحفورة مع شهادة ميلادها، ومع ندرة الأحافير فسيكون من المستحيل عملياً محاولة ربط هذه الأحافير في سلاسل مقبولة من نمط سبب ونتيجة. بالنسبة لهنري جي، نسمي الاكتشافات الجديدة بالروابط المفقودة وكأنَّ سلاسلَ السلف والخلف هي أمر حقيقي متاح لتأملاتناوليست اختراعا بشريًا صرفًا ليوافق أحكامنا البشرية المسبقة على الظاهرة“. ثم يختم جي: “إنّ أخذ سلالة من الأحافير وادعاء أنها تمثل خطا تكاثريا لا يعتبر فرضية علمية قابلة للاختبار، وإنما هو تأكيد على قصة تحمل نفس القيمة العلمية للقصص التي تروى قبل النوم.”(42)

واختصارًا: لا تستطيع الأحافير إثبات التطور الدارويني. لكن ماذا عن الكائنات الحية؟ هل هي قادرة على إثبات التطور الدارويني؟ هذا ما سنراه في الفصل القادم.


10.3 أسئلة للمناقشة:


  1. ما هي الأحافير؟ ما هي علاقتها بدراسة الأصل الحيوي؟ هل يوفر السجل الأحفوري دليلا مباشرا أم قرائن على الأسلاف المتشركة؟ هل يدعم ذلك الدليل الآليات الداروينية أم التصميم الذكي كسبب لكل التنوعات الحيوية؟



  2. ما هو الاعتراض المميت على نظرية داروين؟ هل يتفق السجل الأحفوري مع فكرة شجرة الحياة العالمية، بحيث تندرج الكائنات الحية كلها في علاقة سلف/ خلف وتتنوع بشكل تدريجي؟ لم تتعلق الداروينية بالتطور المتدرج؟ هل يمتلئ السجل الأحفوري بالأشكال الانتقالية التي تفترضها نظرية داروين؟ هل يعتبر الأركيوبتركس مثالا جيدا على شكل انتقالي؟



  3. ما هي السمات الثلاث الأهم للسجل الأحفوري؟ ما هو الانفجار الكامبري ولم هو مهم في تقييم حقيقة التطور الكبروي؟ هل يوجد أسلاف تطورية واضحة للشعب التي ظهرت في العصر الكامبري؟ ماذا يعني القول بأنَّ السجل الأحفوري ذو ثباتية؟ وماذا يعني احتواؤه على الفجوات؟



  4. ما هي الطرق الأربعةُ لتفسير السجل الأحفوري؟ لم لا يكفي التعلُّلُ بعدم كمال السجل الأحفوري أو عدم كفاية البحث عن الأحافير لشرح التعارضات بين النظرية الداروينية والسجل الأحفوري؟ كيف تمثل الكائنات الحية المنقرضة في السجل السجل الأحفوري؟ إلامَ يشيرُ فيما يتعلق بجودة السجل الأحفوري في المحافظة على تاريخ الحياة؟ هل نقّب الباحثون عن الأحافير بشكل كثيف؟ كيف يلقي الظهور المفاجئ للأشكال الحيوية بضوئه على التناقضات بين النظرية الداروينية والسجل الأحفوري؟



  5. صف وجهة النظر التطورية المعروفة بالتوازن المتقطع. كيف يفسر التوازن المتقطع الثبات والفجوات في السجل الأحفوري؟ هل وجدت الأشكال الانتقالية يوما ما وفقا للتوازن المتقطع؟ لم فشلت إذًا في التحوُّل إلى أحافير وفقا للنظرية؟



  6. ماذا يعني تفسير الفجوات في السجل الأحفوري على أنَّها نتيجة للظهور المفاجئ؟ هل الظهور المفاجئ هو التفسير الحقيقي للسجل الأحفوري؟ ماهي الاحتمالات الأربع في تاريخ الحياة والتي تفسر الظهور المفاجئ؟ كيف يختلف التشكل اللاحيوي عن بقية الاحتمالات الثلاث؟ لم لا يكفي مبدأ (إعادة التنظيم حيوي المنشأ) لتفسير الظهور المفاجئ؟ كيف يختلف إعادة الاختراع الحيوي عن التطافر التوالدي؟ 



  7. اشرحْ عمل أوتو شيندوولف وريتشارد غولدشميدت. هل تندرج أفكارهما حول التطور الماكروي تحت الظهور المفاجئ؟ هل كانت نظريتهما هي التطافر التوالدي؟ ما المراد بـ المسخ الواعد؟ كيف تقبل المجتمع الأحيائي أفكار غولدشميدت؟ كيف برر غولدشميدت رأيه في مواجهة الداروينية الجديدة السائدة في عصره؟(انظر الملاحظات العامة)



  8. إلى أيِّ حدٍّ يدلُّ السجل الأحفوري على تطور الزواحف تدريجيا إلى ثدييات؟ ما هي أهم التحديات أمام وجهة النظر هذه؟ كيف يفسر عالم الأحياء التطورية تشكُّل آذان الثدييات من عظام فكوك الزواحف؟ هل تجد هذا التفسير مقنعا ولما؟



  9. تخيل أنَّك تقوم بإنتاج وثائقي حول الحيتان التي تطورت من ثدييات أرضية. ابحث في شبكة الإنترنت عن أفضل تصور لذلك وعن أهم التحديات. ناقش كلا الوجهتين واحتج لكل منهما.



  10. ما هي المشاكلُ الرئيسيّة الثلاث في الاستدلال للتطور الدارويني بالدليل الأحفوري؟ ناقش فكرة التشابه نتيجة التقارب. ناقش فكرة التباعد الزماني والمكاني. ناقش فكرة غياب الآلية المادية المقنعة. ناقش المغالطات الإحصائية الناتجة عن انتقاء البيانات من أجل بناء تسلسلات تطورية كبروية من السجل الأحفوري



الهوامش


  1. Theodosius Dobzhansky, “On Methods of Evolutionary Biology and Anthropology,” American Scientist 46 (December 1957): 388.



  2. Ernst Mayr, What Makes Biology Unique? Considerations on the Autonomy of a Scientific Discipline (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), 24-25.



  3. Charles Darwin, On the Origin of Species, facsimile 1st ed. (1859; reprinted Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1964), 189.



  4. المرجع السابق 281-282.



  5. المرجع السابق 280.



  6. المرجع السابق.



  7. المرجع السابق.



  8. Quoted in R. A. Raff and E. C. Raff, eds., Development as an Evolutionary Process (New York: A. R Liss, 1987), 84.



  9. Stephen Jay Gould, Wonderful Life (New York: W. W. Norton, 1989), 64.



  10. D.Erwin, J. W. Valentine, and J.J. Sepkoski, Jr. “A Comparative Study of Diversification Events: The Early Paleozoic Versus the Mesozoic,” Evolution 41 (1987): 1177-1186.



  11. David Raul’, “Conflicts between Darwin and Paleontology,” Field Museum of Natural History Bulletin 30(1) (1979): 25.



  12. Stephen Jay Gould, “Evolution’s Erratic Pace,” Natural History 86(5) (May 1977): 12-16.



  13. المرجع السابق.



  14. Stephen M. Stanley, Macroevolution: Pattern and Process (San Francisco: W. H. Freeman, 1979),82.



  15. Harold C. Bold, Morphology of Plants (New York: Harper and Row, 1967), 515.



  16. Darwin, Origin of Species,280.



  17. The numbers in the last two paragraphs are taken from Michael Denton, Evolution: A Theory in Crisis (Bethesda, Md.: Adler &Adler, 1985), 189-90.



  18. المرجع السابق187.



  19. المرجع السابق 191-92.



  20. Stephen Jay Gould, The Structure of Evolutionary Theory (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2002).



  21. المرجع السابق.



  22. المرجع السابق، 886. Note that the reference to Dawkins (1986) is Richard Dawkins, The Blind watchmaker (New York: Norton, 1986).



  23. Kim Sterelny, Dawkins vs. Gould: Survival of the Fittest (Cambridge, UK: Icon Books, 2001).



  24. Anne Dambricourt Malasse, Andre Debcnath, and J. Pelegrin, “On New Models for the Neanderthal Debate,” Current Anthropology 33(1) (1992): 49-54.



  25. Lynn Margulis and Dorion Sagan, Acquiring Genomes: A Theory of the Origins of Species (New York: Basic Books, 2002).



  26. Douglas J. Futuyma, Evolutionary Biology, 3rd ed. (Sunderland, Mass.: Sinauer, 1998), 146.



  27. James A. Hopson, “The Mammal-Like Reptiles: A Study of Transitional Fossils,” American Biology Teacher49(1), (1987): 16-26.



  28. المرجع السابق,19.



  29. Douglas Futuyma, Science on Trial. The Case for Evolution (New York: Pantheon, 1982), 85.



  30. بالنسبة لجهاز مُعقَّدٍ كأُذُنِ الثدييات، يمْكِنُ أنْ نفترضَ أنَّ المعلومات المطلوبة لتشكيلها موجودة دون التعبير عنها في جينوم حيوانات الرابسيد قبل أنْ تتشعب. وعندها يمكن أنْ تعبر هذه الجينات إلى الثدييات كجزء من المجموع الجيني إلى عدة تنوعات من التيرابسيد والتي ظهرت لاحقا. يبقى أمامنا مشكلة. ليستطيع الانتخاب الطبيعي إنتاج المعلومات يجب ألا يكون مخطط الأذن مخفيا في المادة الجينية وغير معبر عنه لأنَّ الانتخاب الطبيعي يعمل على الصفات المعبر عنها فقط. ستشير هذه المعلومات الجينية المخبأة في حال وجودها إلى وجود خطة مسبقة، وهو ما يتوافق مع التصميم الذكي وليس مع التطور الدارويني.



  31. Michael J. Benton, Vertebrate Palaeontology, 2nd ed. (London: Chapman & Hall, 1997). J. G. M. Thewissen and E. M. Williams, “The Early Radiations of Cetacea (Mammalia): Evolutionary Pattern and Developmental Correlations,” Annual Review of Ecology and Systematics 33 (2002): 73-90.



  32. J. G. M. Thewissen, S. T. Hussain, and M. Arif, “Fossil Evidence for the Origin of Aquatic Locomotion in Archaeocete Whales,” Science 263 (1994): 210-212. Annalisa Berra, “What Is a Whale?” Science 263 (1994): 180-18l.



  33. Philip D. Gingerich, S. Mahmood Raza, Muhammad Arif Mohammad Anwar, and Xiaoyuan Zhou, “New Whale from the ocean of Pakistan and the Origin of Cetacean Swimming,” Nature 368 (1994): 844-847.



  34. Stephen Jay Gould, “Hooking Leviathan by Its Past,” Natural History 103 (May 1994): 8-14.



  35. Kevin Padian, “The Tale of the Whale,” National Center for Science Education Resources, http://www.ncseweb.org/resources/rncse_content/voI17/201O_the_tale_of_the_whale_12_30_1899.asp (last accessed January 3,2007).



  36. Leigh Van Valeri, “Deltatheridia, a New Order of Mammals,” Bulletin of the American Museum of Natural History 132 (19G6): 1-126. Leigh Van Valen, “Monophyly or Diphyly in the Origin of Whales,” Evolution 22 (19G8): 37-41. Dennis Normile, “New Views of the Origins of Mammals,” Science 281 (1998): 774-775. Richard Monastersky, “The Whale’s Tale: Research on Whale Evolution,” Science News (November 6, 1999), http://WWW.findanicles.com/p/articles/mi_m1200/is_19_156/ai_57828404 (last accessed January 3, 2007).



  37. John E. Heyning, “Whale Origins-Conquering the Seas,” Science283 (1999): 943, 1642-1643. Zhexi Luo, “In search of the whales’ sisters,” Nature 404 (2000): 235-239. John Gatesy and Maureen A. O’Leary, “Deciphering whale origins with molecules and fossils,” Trends in Ecology and Evolution 16 (2001): 562-570. Kenneth D. Rose, “The Ancestry of Whales,” Science293 (2001): 2216-2217.



  38. William Feller, An Introduction to Probability Theory and Its Applications, 3rd ed., vol. 1 (New York: Wiley, 1968),33.



  39. S.Iyengar and J. Greenhouse, “Selection Models and the File Drawer Problem (with Discussion),” Statistical Science3 (1988): 109-135.



  40. Tim Berra, Evolution and thelvfyth of Creationism (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1990), 117-119.



  41. From a presentation by Gareth Nelson in 1969 to the American Museum of Natural History, quoted in David M. Williams and Maire C. Ebach, “The Reform of Palaeontology and the Rise of Biogeography- 25 Years after ‘Omogeny, Phylogeny, Palaeontology and the Biogenetic Law’ (Nelson, 1978),” Journal of Biogeography31 (2004): 709.



  42. Henry Gee, In Search of Deep Time (New York: Free Press, 1999), 23, 32, 116-117.








LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...