توقع مستقبل الأرض يشبه إلى حد ما التنبؤ بالطقس، كلما نظرت للأمام أكثر كلما قلّت دقة توقعاتك وتنبؤاتك وبناءً على هذا المبدأ قد يبدو من المستحيل التنبؤ بشكل وحال الأرض بعد 50000 سنة بشكل صحيح، ولكننا في الواقع لدينا 4 مليار عام من التاريخ يمكننا أن نستقي منها الدروس والأفكار. عند دراسة تاريخ الأرض من منظور جيولوجي يمكننا الاعتماد على مجموعة من الأحداث المصيرية والحاسمة مثل التطور، الانقراض، الصفائح التكتونية والتغيّرات المناخية لتشكيل وصقل الشكل المتوقع لكوكبنا في المستقبل البعيد. لننظر الآن لبعض هذه العمليات والأحداث ولنبحر معًا من محطة التاريخ ونتوجه نحو المستقبل لنرى كيف يمكن أن تبدو الأرض بعد خمسين ألفية من الآن.
في البداية نحن نعلم جميعًا أن الأرض تدور حول محورها أثناء دورانها حول الشمس، هاتان الحركتان هما المسؤولتان عن تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة على التوالي، كما أن لهما تأثيرًا لا يمكن أن نغفل عنه على الكائنات الحيّة التي تحاول البقاء على قيد الحياة على سطح الكرة الأرضية، على سبيل المثال الأرض لا تدور فقط حول محورها وإنما تتمايل أيضًا بحركة يشير إليها علماء الفلك بـPrecession، حيث يتحرك محور دوران الأرض نفسه حركة بطيئة حول محور آخر بسبب قوة عزم الدوران. هذه الحركة تتسبب في أن محور دوران الأرض يشير إلى أجزاء مختلفة من السماء خلال فترات زمنية ثابتة تبلغ مدة الفترة الواحدة منها 26 ألف عام، الآن نحن ندرك أن القطب الشمالي للأرض يشير نحو النجم الشمالي Polaris ولكن وفقًا لتلك الحركة، خلال 13 ألف عام من الآن سيكون النجم Vega هو النجم الشمالي الجديد، وخلال 50 ألف عام من الآن ستكون الأرض قد أتمت دورتين من حركة Precession، ما يعني أن الحال سيكون كما هو اليوم تمامًا بالنسبة لهذا المنظور.
من الأمور الهامة والخطيرة أيضًا التغيرات التي يمكن أن تحدث نتيجة الانحراف في مدار ودرجة ميل الأرض، خلال دورة تصل مدتها إلى 97 ألف سنة يتغيّر مدار الأرض من الشكل الدائري إلى شكل بيضوّي أو إهليجي، وفي نفس الوقت تتغيّر درجة ميل محور الأرض من 22.1 درجة إلى 24.5 درجة في الاتجاه الآخر. النتيجة المشتركة لهذه التغيّرات لها تأثير عميق على كمية الطاقة الشمسية التي ستصل إلى كوكبنا، وعندما ستكون الأرض في الموقع المناسب في الفضاء سيدخل كوكبنا عصرًا جليديًّا جديدًا، حيث ستصبح طبقات الجليد في قطبي الكرة الأرضية أكثر سمكًا وستغطي مساحات أكبر من اليابسة. وفقًا للتاريخ، فقد استمر آخر عصر جليدي شهدته الكرة الأرضية لمدة 100 ألف عام تخللته فترات دافئة متقطعة استمرت 10 آلاف عام، ونحن نستمتع الآن بإحدى تلك الفترات ولكننا في النهاية مقبلون على فترات الصقيع مجددًا، ويعتقد معظم العلماء أن العصر الجليدي القادم سوف يبلغ ذروته خلال 80 ألف عام من الآن، ما يعني أنه خلال 50 ألف عام سيكون الكوكب أكثر برودة مما يمكننا أن نتخيل وستصل الطبقات الجليدية أقصي الجنوب وستغطي مدنًا كبيرة مثل نيويورك.
كيف ستؤثر ظاهرة الاحترار العالمي على سيناريو العصر الجليدي في مستقبل الأرض؟ على المدى البعيد أو قد يكون القريب، سنبدأ الشعور بتأثير الاحترار العالمي الكامل خلال 200 عام من الآن، أي في عام 2200 تقريبًا. في ذلك الوقت ستكون معدلات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى بكثير مما كانت عليه خلال الـ650 ألف عام الماضية، وستعمل طبقات غاز ثاني أكسيد الكربون على حجز أشعة الشمس والطاقة الحرارية التي امتصتها الكرة الأرضية من العودة مرة أخرى للفضاء (هذا ما يحدث في الوقت الحالي ولكن بتأثير أقل)، سيؤدي هذا الأمر إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب وستكون عواقب ارتفاع متوسط درجة حرارة الأرض وخيمة ولو ببضع درجات، إذ ستبدأ الطبقات الجليدية في الذوبان وسيرتفع منسوب المياه في البحار والمحيطات ليغمر كل السواحل، ستصبح المحيطات أيضًا أكثر حرارة وسترتفع درجة حموضتها وهو ما سيتسبب في انهيار الشعاب المرجانية على نطاق واسع، وستواجه العديد من الكائنات البحرية خطر الانقراض، ولكنهم لن يخوضوا هذه التجربة وحدهم، إذ ستختفي ربع الكائنات الحية على اليابسة من حيوانات ونباتات إلى الأبد.
ستكون تلك الأوقات من الأوقات الحرجة لكوكب الأرض وقد يبدو أنه لا يمكن حدوث أسوأ من ذلك، ولكن لسوء الحظ إذا كان هناك شيء يمكن أن نتعلمه من تاريخ الأرض البالغ 4 مليارات عام فهو أن نهايات العالم تحدث إذا حظيت بالوقت اللازم، خلال 50 ألف عام من المؤكد أننا سنشهد كارثة ملحمية والتي ستغير كوكبنا إلى الأبد، يمكن للكارثة أن تأتي في شكل كويكب أو مذنب والذي بمجرد وصوله إلى لأرض سيقضي على الحياة كما نعرفها الآن، يرى علماء الفلك أن حدثًا مثل هذا يحدث في المتوسط كل مليون عام لذلك فالاحتمالات لازالت في صالحنا لأنه بالمضي نحو المستقبل بمقدار 50 ألف عام سيكون من الراجح أكثر أن تأتي النكبة من كوكب الأرض نفسه. نفس القوى التكتونية التي تسببت في حركة القارات على سطح الكوكب تقوم في نفس الوقت بتزويد البراكين العملاقة بالطاقة والتي يمكنها أن تنثر من الرماد والدخان بالقدر الكافي في الغلاف الجوي ليحجب أشعة الشمس لمدة قد تصل إلى 15 عامًا، ويعتقد علماء الجيولوجيا أن ثورانًا مثل هذا يحدث كل 50 ألف عام وهنا تصبح الاحتمالات في غير صالحنا.
مواجهة أحداث ملحمية محبطة مثل ثوران البراكين العملاقة يمكن أن تكون أمرًا مفجعًا ولكن ليس بقدر خطر الانقراض الجماعي الذي قد يخبئه لنا المستقبل. أكثر الانقراضات شهرة هو الانقراض الذي مسح الديناصورات من على وجه الأرض في الحقبة الطباشيرية، ولكن الزوال الشامل للديناصورات يتضاءل مقارنة بالانقراض الذي حدث في نهاية حقبة العصر القديم، منذ 251 مليون سنة مضت. عندما قضت كل الكائنات نحبها، كانت 95% من الكائنات البحرية و70% من الكائنات التي تعيش على اليابسة قد اختفت، هل يمكنك أن تتخيل ما الذي تسبب في هذه المجزرة؟ نعم لقد كان ثوران عملاق لأحد البراكين وتحديدًا لقد كان ثوران مجموعة البراكين السيبيرية المعروفة باسم أفخاخ سيبيريا Siberian Traps والذي ما زال أثره على المناخ العالمي قائمًا إلى الآن.
إذا ما هي احتمالات أن يستمتع الإنسان بالأرض خلال 50 ألف عام؟ عندما تضع في عين الاعتبار أن نوعنا لم يمض عليه سوى 100 ألف عام فقط وأن أطول الحضارات الإنسانية عمرًا لم تعمر سوى 3000 سنة، قد يبدو أنه من غير الراجح أننا سنكون الكائنات المسيطرة في المستقبل البعيد. مع ذلك فلقد تطور البشر وما زال إلى يومنا هذا (بالنسبة للمؤمنين بنظرية التطور)، ولقد قدر العلماء أن الإنسان تطور خلال الـ10000 عام الماضية بشكل أسرع 100 مرة عن أي وقت مضى، لذلك من الراجح أن يكون للبشر فرص مرتفعة في الحصول على تغيرات الضرورية التي تمكنهم من التكيف مع الظروف الجديدة في مستقبل الأرض. وهناك العديد من الأبحاث التي تدرس وتبحر خلال ما يمكن أن يبدو عليه البشر خلال الأربعة ملايين عام القادمة، الشيء المؤكد هو أنه إذا كان لا يزال للبشر وجود في تلك الفترة فحتمًا لن تكون هيئتنا ولا تصرفاتنا كهيئة وتصرفات الناس الذين يمشون على سطح الأرض اليوم.
شهدت الحضارة البشرية تقدمًا هائلًا خلال الـ5000 عام الماضية وآثار الأرض تشهد على ذلك. لقد غيرنا هيئة سطح الأرض وأثرنا على المناخ والطقس وحتّى التنوع البيولوجي للكائنات الحيّة، لقد ارتفعنا بمبانٍ تعانق السحاب لنعيش فيها، وأنشأنا قبورًا واسعةً وهائلةً للأموات، ولعل الأكثر أهمية هو أننا تعلمنا كيف نحصد ونستغل جزءًا من طاقة هذا الكوكب، ولكننا مازلنا في حالة ظمأ ونرغب في المزيد.
هذه الشهية والنهم اللانهائيّان للطاقة سيستمران في رسم مسار الحضارات البشرية خلال الـ5000 عام القادمة، وكنتيجة لذلك، فهي أيضًا تبين كيف ستبدو الأرض بحلول عام 7014. في عام 1964 قام عالم الفيزياء الفلكية Nicolai Kardashev بوضع نظرية مفادها أن التقدم التقني لأي حضارة يرتبط ويتأثر بشكل مباشر مع كمية الطاقة التي يمكن لشعبها أن يتعامل معها. وفقًا لذلك المبدأ قام بتعريف ثلاثة تصنيفات للحضارات المتقدمة في المجرة:
- النوع الأول: حضارات “أسياد طاقة الكواكب” بمعنى أنها حضارات يمكنها أن تحصد مجموع الطاقة الموجودة في العالم كله.
- النوع الثاني: حضارات يمكنها أن تجمع مجموع الطاقة الموجودة في نظام نجمي كامل (نظامنا الشمسي مثلًا)
- النوع الثالث: حضارات يمكنها أن تحكم سيطرتها على الطاقة الموجود في نطاق المجرة بأكملها.
يستخدم علماء الكونيات هذا المقياس لتوقع التقدم التقني في حضارات المستقبل أو الحضارات غير البشرية، وقد تصاب بالدهشة إن أخبرتك أن حضارتنا الحديثة اليوم لا تطابق أيًّا من تلك التصنيفات، يمكن القول أننا من النوع صفر ولكننا في نهاية الأمر وفقًا لوتيرة التطور التي نشهدها سنصل إلى النوع الأول، وقد توقع Nicolai بنفسه حدوث هذا الأمر ولكن السؤال هو متى؟
Michio Kaku عالم الفيزياء النظري والمستقبلي، تنبأ بحدوث هذا السمو خلال قرن واحد من الآن، أمّا الفيزيائي Freeman Dyson فقد رفع سقف التوقعات إلى 200 عام، أمّا Nicolai نفسه فقد تصور أن نصل إلى النوع الثاني خلال 3200 عام، لو تمكنت البشرية من الوصول إلى النوع الأول بحلول عام 7014 فسيكون بمقدورها أن تتحكم وتتلاعب بالقوى الجوية والطاقة الحرارية الأرضية. الحروب العالمية وأسلحة الدمار الشامل وحتى الدمار الذاتي ستبقى من الأمور التي تمثل خطرًا على بقاء البشر، ولكن المخاوف البيئية ستكون من الماضي.
إذا تمكنا من الوصول إلى النوع الثاني خلال الـ5000 عام القادمة، سيحظى البشر في القرن الواحد وسبعين بتكنولوجيا أقوى بكثير مما لدينا الآن، يرى Freeman أن حضارة مثل تلك سيكون باستطاعتها تغليف نجم كامل بسرب من الأقمار الصناعية لحصاد كل قطرة طاقة منه، ويرى آخرون أن تلك الحضارات سيكون بمقدرتها السفر بين النجوم بسهولة، بل وتحريك ونقل كواكب بأكملها بالإضافة للإنجازات غير المسبوقة التي ستشهدها البشرية في مجال الجينات والحاسوب.
البشر الذين سيعمرون تلك الحضارات سيختلفون كليًّا عنّا ثقافيًّا أو حتّى عقليًّا وشكليًّا وقد يكونوا كما يشير إليهم المستقبليون والفلاسفة بـposthumans أو transhumans وهي أشكال ما زالت لم تخرج من حيز الخيال العلمي وخيال الفلاسفة أنفسهم. بغض النظر عمّا سبق، يمكن أن يحدث الكثير خلال الـ5 أو الـ50 ألف القادمة، قد ندمر أنفسنا بحرب عالمية أو بتدمير الكوكب باستخدام التكنولوجيا بشكل خاطئ وقد نفشل في تفادي التصادم مع كويكبات أو مذنبات فضائية ويتم تدمير الأرض أو تدمير الحياة عليها، أو حتّى في أسوأ الأحوال قد نضطر لمواجهة حضارة أخرى غير بشرية من النوع الثاني قبل أن نصل إلى ذلك المستوى بأنفسنا.