تحدثنا في الجزء الأول والثاني عن أبرز الاختراعات والابتكارات التي خرجت للنور من ظلمة الحرب العالمية الأولى والتي كان بعضها سببًا في سلب آلاف الأرواح وكان البعض الآخر سببًا في إنقاذها، نكمل اليوم ما بدأناه وننهي هذه السلسلة بمجموعة أخيرة من هذه الاختراعات.
ماري كوري أثناء قيادتها لعربة تحمل جهاز أشعة x المتنقل
في عام 1914 كان عدد المصابين جرّاء الحرب قد بلغ ذُروته وقد أرهق عاتق المسعفين والخدمات الطبية لدرجة أن العديد منهم قد لقي حتفه لعدم إسعافه، ولتجنب هذه الخسائر قامت الجيوش بتطوير ابتكارات جديدة من أجل تشخيص وعلاج المصابين بشكل أسرع وأكثر كفاءة ومنها على سبيل المثال أداة Thomas splint المستخدمة في تجبير عظام القدم المكسورة والتي ساهمت في تقليل عدد الجنود الذين يموتون جرّاء كسور العظام بنسبة 80%، حيث لم تكن المضادات الحيوية قد ظهرت بعد في ذلك الوقت وكانت كسور العظام تؤدي للوفاة في أغلب الحالات.
ثمة شيء آخر عُدَّ في ذلك الوقت من أهم الابتكارات الطبية وهو جهاز أشعة X المتنقل الذي ابتكرته Marie Curie الحائزة على جائزة نوبل في الفيزياء. سمح هذا الجهاز بتشخيص المصابين على الخطوط الأولى للمعركة وذلك عبر تثبيته في السيّارات الخاصة بالجيش الفرنسي، وقد قادت ماري بنفسها إحدى تلك السيارات وعملت في ساحات المعركة مع ابنتها البالغه من العمر 17 عامًا على تشخيص المصابين باستخدام الجهاز وعلاجهم، حيث ساهم بشكل كبير في الكشف عن الكسور الداخلية وأماكن الرصاصات والشظايا الناتجة عن القنابل.
كان جهاز ماري هذا من أهم الابتكارات الطبية في ذلك الوقت لما كانت عليه أجهزة أشعة X من الضخامة والحساسية بحيث يستحيل نقله من مكان لآخر، وقد مهد لظهور الجيل الجديد من أجهزة الأشعة السينية الصغيرة التي نعرفها اليوم.
الشعلات الضوئية تضيء أرض المعركة
الجبهة الغربية كانت من المناطق المروعة في الحرب العالمية الأولى، حيث كانت المنطقة بين خنادق الأعداء مغطاة بالأسلاك الشائكة والجثث النخرة وقذائف الرصاص والقنابل الفارغة وبرك الماء الوعرة ومخاطر أخرى كثيرة، ولهذا لم تكن الجنود تتجرأ على الحركة إلا في دوريات أو خلال المداهمات على الخنادق في الليل عندما يتوقف العدو عن استخدام المسدسات الضوئية، والتي كان يعرفها الجيش البريطاني باسم مسدسات فيري Very pistol تيمنًا باسم مخترعها ضابط القوات البحرية الأمريكية Edward Wilson Very وكان المسدس يحمل طلقة واحدة عند إطلاقها تنفجر في الهواء لتطلق ضوءًا ملوّنًا يضيء أرض المعركه فيقتنص كل قناص أي شيء تقع عيناه عليه وهو يتحرك، وما زالت هذه المسدسات مستخدمة إلى يومنا هذا حيث تستخدمها السفن كإشارات استغاثة في حالات الطوارئ.
انفجار أحد الألغام المائية أمام سفينة حربية
كانت الغواصات الألمانية المتطورة المعروفه باسم U-Boot تُضيّق الخناق على سفن الشحن التي تعتمد عليها بريطانيا لتطعم شعبها، وأصبحت بريطانيا على حافة مجاعة إلى أن ظهر سلاحٌ جديد في ذلك الوقت الحرج، وهو القنبلة المائية التي طورها Herbert Taylor. كان اللغم المائي شبيهًا باسطوانة الغاز ومحمّل بالمتفجرات التي تنفجر بمجرد وصول القنبلة لعمق معيّن يقدر وقتها بـ90 مترًا. عند انتهاء الحرب كان هناك أكثر من 16 ألف قنبلة مائية تم إطلاقها ساهمت في إغراق 38 غواصة ألمانية وتدمير 141 أخرى.
مجموعة من الجنود الكنديين أثناء توجههم نحو مضاد للطائرات لصد أحد الغارات عام 1918
في فترة الاستعداد للحرب كانت الدول المنخرطة في الصراع تدرس خطر الهجوم بالطائرات والمناطيد، وفي عام 1909 وقبل بدء الحرب بدأت ألمانيا في تطوير مدافع يمكنها الإطلاق وإصابة أهداف في الهواء، بينما في عام 1914 كانت بريطانيا تخطط لبناء أبراج مضادة للطائرات حول تسع مرافئ وطورت كذلك مدافع مضادة للطائرات أطلقت عليها اسم “بوم بوم”.
استخدمت البحرية الملكية أيضًا مضادات الطائرات من عيار 3 و 4 إنش واحتمت لندن بمضادات الطائرات المزودة بمصابيح كاشفة من الغارات الجوّية وتمكنت تلك المدافع من إسقاط الطائرات الألمانية من نوع Zeppelin في عام 1916 واضطرت عندها ألمانيا إلى إيقاف الغارات الجوّية على لندن.
مجموعة من الجنود أثناء ارتدائهم للأقنعة الواقية من الغاز
كانت ألمانيا في بداية الحرب تملك أكثر المصانع الكيميائية تطورًا في العالم، وبعد بدء الحرب لجأت ألمانيا إلى استغلال هذه المصانع طمعًا في الحصول على سلاح قوي يخرجها من أزمة الخنادق واستغلتها في إنتاج غاز الكلوراين المشتق من الكلور الذي استخدمته لأول مرة في عام 1915 في بلجيكا ضد قوات الحلفاء، ثم تلى ذلك استخدام غازات خطيرة أخرى مثل غاز الخردل. ومن الجدير بالذكر أن ألمانيا لم تكن أول دولة تستخدم الغاز في الحرب، فقد سبقتها فرنسا في عام 1914 واستخدمت الغاز المسيّل للدموع ضدها.
أول مظاهر الدفاع التي ابتكرها البريطانيون والفرنسيون ضد الغاز القاتل الذي طوّرته ألمانيا كانت مجرد خرقات مبللة توضع على الفم والأنف لمنع الجنود من استنشاق الغاز، وتم تطوير بعد ذلك أشكال مختلفة من أقنعة الغاز التي قللت بشكل ملحوظ من عدد الخسائر البشرية الناجمة عن الغاز السام والتي تم تقديرها بعد انتهاء الحرب بمليون إنسان.
مجموعة من الطائرات أثناء توجهها لشن غارة جوية
من أكثر المشاكل التي كانت عائقًا في عملية تطوّر الطائرات الحربية في وقت الحرب العالمية الأولى عدم قدرة المدافع الآلية المثبتة في منتصف الطائرة على إطلاق الرصاص في مجال مروحة محرك الطائرة دون إصابتها وإتلافها، لذلك قدّم الفرنسي Roland Garros حلًّا جزئيًّا للمشكلة عن طريق تطعيم الأجزاء الخشبية للمروحة ببطانة معدنية تقوم بعكس الرصاص عند الاصطدام بها.
في عام 1915 قدّم مهندس الطيران الهولندي Anthony Fokker للجيش الألماني حلًّا كليًّا لهذه المشكلة متمثلًا في طائرات مزودة بقاطع interrupter، وهو عبارة عن نظام تزامن يعمل على ضبط توقيت إطلاق الرصاص من المدافع الآلية بحيث لا يصيب مروحة المحرك أثناء دورانها وهو ما سمح للمقاتلات الألمانية بالسيطرة على الأجواء لمدة عام كامل إلى أن تمكنت قوات الحلفاء من تقليد اختراعم.
خِلال الحرب العالمية الأولى كانت الشظايا الناتجة عن القنابل والمتفجرات السبب الأول للعديد من إصابات الوجه، وبخلاف الإصابات المستقيمة والمنتظمة الناتجة عن الرصاص، كان يمكن للشظايا المعدنية غير المُنتظمة الشكل الناتجة عن الانفجارات أن تمزق الوجه تماما وتسبب تشوهات عديدة للجسم. من هول ما رآه، أخذ الجراح Harold Gillies مهمة مساعدة هؤلاء المصابين على عاتقه وابتكر تقنيات رائدة لتجميل وإعادة بناء الأجزاء المصابة لدى الجنود، وتُعد التقنيات التي ابتكرها حجر الأساس في مجال الجراحة التجميلية اليوم.
ما ذكرناه في هذا المقال بأجزائه الثلاثة لم يكن كل ما نتج عن الحرب من اختراعات، فهناك ابتكارات أخرى كانت الحرب العالمية الأولى شاهدة على مولدها مثل أنظمة التقريب الصوتي وهي طريقة تستخدم لتحديد بُعد وتشكيل جنود العدو من صوت مدافعه، التصوير الجوي شهد مراحله الأولى أيضًا في هذه الحرب فوقتها لم تكن الأقمار الصناعية قد ظهرت بعد ولجأ الطيارون إلى تصوير مناطق العدو عبر كاميرات خاصة من طائراتهم، المظلات أيضًا لم تكن معروفة في ذلك الوقت حتّى استخدمتها ألمانيا لأول مرة، والعديد من أنظمة التشفير ظهرت أيضًا بفضل الحرب العالمية الأولى. لعلكم لاحظتم كيف أن كل ابتكار كان يظهر لدى أحد الأطراف المشاركة في الحرب ليقربه من النصر كان الطرف الآخر ينسخه ويطوّره بحيث يصبح أكثر فتكًا عن ذي قبل وقد كان هذا الأمر نقمة كبيرة على البشرية.
ترقبوا السلسلة الثانية والتي سأتحدث فيها عن أبرز الاختراعات والابتكارات التي ظهرت بفضل الحرب العالمية الثانية.
يمكنكم الضغط هنا للاطلاع على الجزء الأول.
يمكنكم الضغط هنا للاطلاع على الجزء الثاني.