كانت ليزا مايتنر ذات الثمانية والعشرين ربيعًا امرأة خجولة جدًّا، وعلى الرغم من خجلها وقلقها الدائم، وصلت دكتورة الفيزياء الشابة إلى برلين وهي مصممة على الحصول على عمل في مجال النشاط الإشعاعي المثير. وفي هذا الوقت، لم تكن جامعات ألمانيا عام 1907 توظف النساء الخريجات، ولكن لحسن الحظ كان هناك من وقف إلى جانبها، وهو عالم الكيمياء الألماني أوتو هاهن، وهنا يأتي أيضًا دور ماكس بلانك بعدما ساعد أينشتاين من قبل في الحصول على عمل في الجامعة، يطلب مرة أخرى من أوتو هاهن أن يتواصل مع ليزا مايتنر ربما يجد فيها الشخص الذي يمكن أن يساعده في أبحاثه. وقد بادرت ليزا بإبداء رغبتها في مساعدته في التحليل الفيزيائي والرياضي للمشاكل الكيميائية، وقد كانت بحوث النشاط الإشعاعي في تلك الأيام تجري بالتعاون بين الفيزياء والكيمياء. وبهذا كانت ليزا مايتنر تخطو أولى خطواتها في حلة سوف تغير تاريخ العالم، وسيكون طريقها مفروشًا بالنجاح والشهرة، ولكنه أيضًا محفوف بالخوف والخيانة.
في هذا الوقت لم يكن الكثير قد عُرف عن الذرة. في البداية ظنها الناس نظامًا خلويًّا مصغرًا، حيث توجد هناك نواة صلبة في المركز وإلكترونات تدور حولها بكيفية تشبه دوران أجرام المجموعة الشمسية حول الشمس. بعد ذلك بقليل قال بعض الباحثين أن النواة نفسها ليست كتلة من المادة، بل تتكون من جزيئات أصغر منفصلة تسمى بروتونات ونيوترونات. ولكن فيما يدعى بالمعادن المشعة، مثل الراديوم واليورانيوم، تبدو النواة نفسها غير مستقرة وتتسرب منها الطاقة والجزيئات، ولعل هذا يعد مثالًا لمعادلة الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء، حيث كتلة النواة تتسرب خارجها على هيئة طاقة.
بدأ تعاون مايتنر وهاهن في ظروف غير متساوية، فقد قُدِّم له مختبر، أما هي فقد أُرغِمت على العمل في مستودع للأخشاب. ولقد مضت سنوات حتى تخلصت ليزا من خجلها، وفي عام 1912 انتقلت وهاهن إلى معهد القيصر فيلهلم للكيمياء حيث أصبحا متساويين في الدرجة الوظيفية. وقد كانت الفيزياء هي شغفها الأول وولعها الأساسي، حتى أصبحت ليزا مايتنر أول امرأة في ألمانيا تنال لقب أستاذ “بروفيسور”. كانت العشرينيّات والثلاثينيّات من القرن الماضي السنوات الذهبية للبحوث النووية. وأشهر نواة ذرة عُرفت في تلك الفترة كانت نواة ذرة اليورانيوم، أثقل الذرات. وكان مايتنر وهاهن يتصدران سباق العلماء حول معرفة إمكانية تشكيل نواة أكبر من نواة اليورانيوم بإضافة المزيد من النيوترونات إليها.
وقد كانت مايتنر على وشك الوصول إلى اكتشاف كبير، ولكن ألمانيا في الثلاثينيّات كانت مكانًا خطرًا حتى على عالم من الدرجة الأولى مثلها. فعندما وصل النازيون إلى الحكم كان أحد الأشياء الأولى التي قاموا بها، هي طرد الأكاديميين اليهود من الجامعات الألمانية. فأينشتاين كان شخصًا مشهورًا للغاية ولهذا كان أول المطلوب إبعادهم. وقد تم طرده من ألمانيا عام 1933. أما ليزا فلم تُطرد في ذلك الوقت وقد كان بوسعها البقاء لأنها كانت نمساوية. ولكن عام 1938 ضُمت النمسا إلى ألمانيا وأصبح وضعها معقدًا. وقد كان الضغط عليها لا يُحتمل بعدما أذاع بعض النازيين المتعصبين في الجامعة أن عليها أن ترحل مثل باقي اليهود. أما هاهن الذي كان معروفًا بمعاداته للأفكار النازية فقد بذل جهده لحمايتها ولكن رئيس الجامعة أخبره أن التستر عليها وحمايتها من الممكن أن يجعل النظام يصدر أمرًا بإعدام كل من شارك في هذا الفعل. وفي عام 1938 ذهب أحد زملائها الهولنديين إلى برلين وهرّبها معه في قطار إلى هولندا، وقد كانت الرحلة مرعبة لدرجة أنها في لحظة ما توسلت إليه أن يعيدها ثانية إلى برلين، ولكن على الرغم من الخطر المحدق، فقد تمكنا من عبور الحدود.
لقد فقدت كل شيء، بيتها ووظيفتها وكتبها وراتبها وتقاعدها، لقد حرمت من عملها في اللحظة التي كانت على وشك الوصول فيها إلى اكتشاف كبير. ولكنها لم تكترث بالحرمان الذي عانته. كان بالها منشغلًا بالفيزياء، والمدهش أنها تمكنت من التعاون مع هاهن عبر الرسائل. ففي برلين، كان هاهن قد توصل لنتائج غريبة، ولم يجد ما يؤكد الاعتقاد بأن قذف نواة اليورانيوم بالنيوترونات سيؤدي إلى زيادة حجمها، في الواقع، بدت تجاربه وكأنها قد تلوثت بعنصر الراديوم، الذرة الأصغر حجمًا من اليورانيوم، فاحتاج هاهن إلى خبرة مايتنر في التحليل الفيزيائي ولو عن بعد. وعندما قرأت مايتنر رسائل هاهن شعرت أن شيئًا ما مختلفًا يحدث في تجاربها.
لنرى كيف ستتعامل ليزا مايتنر مع النتائج الغريبة التي أرسلها هاهن لها، ولكن لهذا مقال آخر.