بي بي سي عربية - عادة ما يقال إن اللون الأحمر يهدف إلى استثارة مشاعرنا، بينما يبقينا اللونان الأزرق والأخضر هادئين. لكن الباحثة في علم النفس، كلوديا هاموند، خلصت إلى أن التأثير الحقيقي لتلك الألوان ليس كما نتوقع.
يمكن أن نقضي ساعات عدة في انتقاء اللون الملائم لطلاء غرفة ما، بهدف خلق حالة ذهنية أو مزاج بعينه نرغب فيه. بالطبع، يمكن الإشارة إلى أن عيادات الأطباء على سبيل المثال تُطلى باللون الأبيض كي تعطي إحساسا بأجواء نظافة المكان الذي نتلقى فيه العلاج.
أما المحال التي تقدم الوجبات السريعة، فتُطلى باللونين الأحمر أو الأصفر، بينما تُطلى الزنازين في بعض السجون باللون الوردي، أملا في أن يحد ذلك من النوازع العدوانية لدى نزلائها.
وربما نعتقد أننا نعلم التأثير المحدد الذي يخلّفه كل لون. بل إن فكرة أن اللون الأحمر يوقظ مشاعرنا، أو أن الأزرق يهدئ منها، هي فكرة عميقة الجذور في الثقافة الغربية، إلى حد أن هناك العديدين ممن يعتبرونها حقيقة واقعة. لكن هل تغير هذه الألوان من سلوكنا على الشاكلة التي نفترضها؟
من زاوية البحث العلمي، تبدو النتائج في هذا الشأن متضاربة، بل وفي بعض الأحيان قابلة للطعن في صحتها. في هذا الإطار، يخضع اللون الأحمر لدراسات أكثر من غيره، ويُقارن على الأرجح إما باللون الأزرق أو الأخضر.
وقد خلصت بعض الدراسات إلى أن الناس يؤدون المهام ذات الطابع الإدراكي بشكل أفضل عندما يرون أمامهم اللون الأحمر، مُقارنة باللونين الأزرق أو الأخضر، بينما أظهرت دراسات أخرى نتائج معاكسة.
بين الألوان وبين الانطباعات التي تعطيها. فالفكرة تكمن في أنه إذا ما مر شخص ما بخبرة معينة بصورة متكررة، وكان يحيطه خلالها لون بعينه، فإنه سيبدأ- في نهاية المطاف- في الربط ما بين هذا اللون والشعور الذي انتابه أو الطريقة التي تصرف بها خلال تلك الخبرة.
وثمة استخلاصات تفيد بأن كثرة مطالعة المرء للدوائر الحمراء، التي كان يضعها معلمه حول أخطائه أو درجاته المنخفضة في المدرسة، من شأنها أن تجعله يربط للأبد ما بين هذا اللون وبين الشعور بالخطر، وهو ما تعززه حقيقة أن الفواكه السامة تكون غالبا حمراء اللون.
في الوقت نفسه، يبدو اللون الأزرق مرتبطا بشكل أكبر بالمواقف الأكثر هدوءاً، مثل تأمل البحر، أو النظر بإعجاب شديد لقبة السماء الزرقاء مترامية الأطراف.
خلاف علمي
هناك بطبيعة الحال استثناءات، فعبارة استحسان من معلمك يقول لك فيها “أحسنت”، تُكتب هي الأخرى باللون الأحمر، كما أن ثمار التوت بدورها حمراء اللون، ولكنها صالحة للأكل كذلك.
وعلى الرغم من أنه يصح القول إن الناس يشكلون روابط مختلفة السمات مع الألوان على تنوعها، فإن مسألة أن يُترجم ذلك في صورة تصرفات تتخذ أشكالا معينة، أو أن يؤثر ذلك على نجاحهم في أداء مهام بعينها، هو أمر آخر.
فبعد العديد من النتائج المتضاربة التي خلص إليها العلماء في الماضي، سعى الباحثون في جامعة كولومبيا البريطانية عام 2009 إلى استيضاح طبيعة هذا الموضوع بشكل قاطع لا يقبل التفنيد بعد ذلك. ولذا وضعوا أفراد عينة البحث أمام شاشات أجهزة كمبيوتر، تتبدل ألوانها ما بين الأحمر، والأزرق، وكذلك “لون محايد”، واختبروا أداء العينة في مهام متنوعة.
عندما كانت الشاشات حمراء، حقق أولئك الأشخاص الذين شملهم البحث نتائج أفضل في اختبارات التذكر والتدقيق الإملائي، وفي مهام تتطلب الاهتمام بالتفاصيل. ولكن عندما تحول لون الشاشات إلى الأزرق، كان أداء أفراد العينة أفضل في أداء مهام ذات طابع إبداعي أو ابتكاري، مثل التفكير في عدد الاستخدامات المختلفة الممكنة لقالب طوب واحد على سبيل المثال.
وفي هذا السياق، افترض الباحثون أن اللون الأحمر يدل على مفهوم “تجنب” الأشياء، ولذا كان أفراد العينة أكثر حذرا عندما شاهدوه، أما اللون الأزرق فيثير معنى معاكسا، وهو “الاقتراب”، مما شجع أفراد عينة البحث على أن يكونوا أكثر تحررا عند التفكير، وهو ما أدى إلى مزيد من الابتكار والإبداع.
ولاختبار مدى صحة هذا الافتراض، طلب الباحثون من أفراد العينة حل لعبة إكمال الحروف الناقصة في كلمات مختلفة تتصل إما بسلوكيات متعلقة بمفهوم “التجنب”، أو أخرى مرتبطة بمفهوم “الاقتراب”.
كان أفراد العينة يميلون إلى حل الألغاز المرتبطة بكلمات ذات صلة بمفهوم “التجنب” على نحو أسرع إذا ما كانت مكتوبة على خلفية حمراء اللون. وفي المقابل، كانوا يكملون الكلمات المتصلة بمفهوم “الاقتراب” بشكل أسرع، إذا ما كانت مكتوبة على خلفية زرقاء.
أكثر من ذلك، بدأ فريق العلماء يتكهن بكيفية الاستفادة العملية من النتائج التي خلص إليها. فمثلا، بدأ العلماء يتساءلون عما إذا كان يتعين طلاء الجدران بألوان مختلفة وفقا للمهام المطلوبة من الأشخاص الموجودين بين جوانبها. مثل طلاء غرفة فريق يرغب في بحث الأعراض الجانبية لعقار جديد باللون الأحمر، أو طلاء غرفة تُخصص لعمليات عصف ذهني ذات طابع إبداعي باللون الأزرق.
لكن الأمر ربما كان معقدا من الناحية العملية، إذ أن المرء قد يرغب في أن يستخدم غرفة بعينها للتفكير على نحو إبداعي في وقت ما، ثم الاهتمام بالتفاصيل في وقت آخر.
تحذير أم رغبة؟
في كل الأحوال، باتت علامات الاستفهام الآن تحوم حول ما خلص إليه هؤلاء الباحثون من نتائج من الأساس. فعندما حاول فريق بحثي آخر في عام 2014 تكرار الدراسة في جزئها الخاص بلعبة استكمال حروف الكلمات، ولكن مع مجموعة أكبر عددا، تلاشى تأثير الألوان على تلك النتائج.
وقد أثار الفريق البحثي نفسه تساؤلات حول نتيجة أخرى مهمة خلصت إليها دراسة أجراها الباحث أوليفر غينشو بجامعة بازل السويسرية. ففي تلك الدراسة، عرض الفريق الذي قاده غينشو على المتطوعين صحنا من المعجنات، وطلب منهم أن يلتهموا منه ما يشاءون، حتى يتسنى لهم إعطاء حكم على مذاق الطعام.
وكشفت الدراسة عن أن اللون الأحمر عاد من جديد ليوحي بما يشبه التحذير، إذ أن من عُرض عليهم تناول معجنات من صحن يحمل هذا اللون، لم يتناولوا سوى القليل من محتوياته. مع ذلك، فإنه عندما اتبع فريق علمي تابع لجامعة أبالاتشين الحكومية في نيويورك الإجراءات البحثية ذاتها جاءت النتائج معاكسة تماما، إذ تناول الأشخاص أصحاب الصحون الحمراء كميات أكبر من المعجنات.
سجون وردية
وهكذا بدا واضحا أن دراسة تأثيرات الألوان أكثر صعوبة مما تبدو عليه، أو ربما أن الألوان ببساطة ليس لها التأثير الذي نتوقعه. برغم ذلك، فإن ثمة اقتناعا لدينا بأن الألوان تلعب مثل هذا الدور في بعض من سجون الولايات المتحدة، وسويسرا، وألمانيا، وبولندا، والنمسا، والمملكة المتحدة، إذ تطلى جدران الزنازين فيها بدرجة معينة من اللون الوردي.
ففي سويسرا على سبيل المثال، يوجد في 20 في المئة من السجون ومراكز الشرطة زنزانة واحدة على الأقل مطلية بهذا اللون وبتلك الدرجة، التي أود أن اسميها “الوردي المائل للأبيض”، لكن اسمها المتعارف عليه هو “وردي بيكر-ميللر”، نسبة إلى اثنين من ضباط البحرية الأمريكية كانا أول من درس تأثير الجدران وردية اللون على السجناء.
ففي عام 1979، عُرض على السجناء بطاقات بعضها وردية اللون، وبعضها الآخر زرقاء، ثم كان يتعين عليهم محاولة مقاومة ضغوط بدنية يمارسها عليهم القائمون على التجربة، من خلال الضغط على أيديهم.
وعندما كان السجناء يرون البطاقات الزرقاء، كانوا يدفعون أيدي الباحثين بقوة أكبر. فهل تقلل البطاقات الوردية بشكل ما من النزعات العدوانية؟ ربما لا؛ إذ أن الباحثين كانوا يعلمون أي البطاقات يتم إظهارها للسجناء، لذا فحتى دون أن يدركوا ذلك، ربما كانوا يخففون الضغط قليلا عند إظهار البطاقات الوردية.
الأكثر من ذلك، أن التجربة قامت على إظهار بطاقة تجريبية في البداية، ثم تليها واحدة وردية، فثالثة زرقاء، لذا فقد يكون القائمون على التجربة قد أصبحوا أكثر خبرة فيما يتعلق بالضغط على السجين بدنيا، عندما يأتي دور البطاقة الزرقاء في نهاية المطاف.
وقد باءت بالفشل محاولات عديدة تالية لتكرار الحصول على هذه النتائج ، من خلال تجارب علمية أفضل تصميما. ولكن أعقبتها تجربة عملية أُجريت في سجن حقيقي، كانت زنازينه إما بيضاء اللون أو وردية. ومن جديد، تبين أن مكانة اللونين متساوية لدى جميع النزلاء. فربما كان إعادة طلاء الزنازين هو ما أدى لحدوث فارق في سلوك السجناء، وليس طلاؤها بلون وردي بالتحديد.
وفي عام 2014، دخل الفريق الذي يقوده غينشو سجنا يحظى بحراسة مشددة للغاية في سويسرا بهدف إعادة اختبار الفرضيات الخاصة بدور الألوان في التأثير على السلوك.
وكانت الدراسة هذه المرة مُصممة بشكل أفضل بكثير، مقارنة بذاك البحث الذي جرى قبل 30 عاما، إذ جرى في إطارها التوزيع العشوائي للنزلاء الخاضعين لعقوبات إدارية بداخل السجن جراء انتهاكهم لقواعده، وذلك على زنازين إما مطلية كلها باللون الوردي، أو طُليت جدرانها باللون الرمادي وسقفها باللون الأبيض.
كما دُرب الحراس على التعامل مع السجناء على نحو عدواني لتقييم سلوكياتهم. وجاءت النتائج مخيبة لآمال من تكبدوا عناء طلاء الزنازين باللون الوردي، فبعد قضاء السجناء جميعا ثلاثة أيام في الزنازين، باختلاف أنماط طلائها، بدا أنهم أصبحوا أقل عدوانية عما كانوا عليه في بداية التجربة. ليثبت أن طلاء الجدران بذلك اللون بالتحديد لم يكن له تأثير على الإطلاق.
وأقر معدو الدراسة بأنه ربما يكون من شأن دراسة أخرى، تجري على عينة أكبر، إثبات وجود فوارق في تأثيرات الألوان المختلفة. ولكن إذا ما كان استخدام لون ما دون سواه لن يؤثر إلا في عدد محدود من البشر، فعلى السلطات عندئذ أن تحدد ما إذا كان اللجوء إلى أسلوب مثل هذا مفيدا أم لا.
أكثر من ذلك، أشار الباحثون إلى إمكانية أن يكون للجدران التي طُليت بلون وردي مائل للأبيض تأثير عكسي إذا أدت إلى أن يشعر السجناء وكأنهم قد أُفقدوا ذكورتهم، بفعل استخدام لون لطلاء الجدران يعد ذا طابع أنثوي تقليديا.
في النهاية، بوسعنا القول إنه قد يكون للألوان تأثير، ولكن مثل هذه التأثيرات لم تَبْدُ قادرة حتى الآن على الظهور بشكل مستمر، بل وفي بعض الأحيان لا يبدو أنها موجودة على الإطلاق.
وبينما تظهر ببطء دراسات متقنة علميا بشكل أفضل، فإن الأمر ربما سيستغرق بعض الوقت قبل أن نتمكن من الإلمام بالصورة الكاملة للكيفية التي تؤثر بها الألوان علينا، ناهيك عن أن نفهم الآليات المحددة التي يحدث ذلك من خلالها.
وحتى يتحقق ذلك، فستظل الديكورات الداخلية لأي مكان -مثلما كانت دائما- مزيجا ما بين الذوق الشخصي والنزعة الفنية.
تابعنا على الفيسبوك: