التشابه البنيوي والدليل على السلف المشترك ( جوناثان ويلز : أيقونات التطور)



بهذا المقال يفند ” جوناثان ويلز” واحدة من أهم أيقونات نظرية التطور في الفصل الرابع من كتابه الممتع (أيقونات التطور icons of evolution since or myth) ، واسقاط الحجة المتمثلة في دليل التشابه البنيوي بين الانواع الحية علي السلف المشترك ، أنصحكم بإتخاذ مقعداً مريحأ ومشروباً دافئاً ، والتركيز فيما يلي لأنه يحمل بين طياته مثالاً ..جلياً، وكاشفاً لدوجمائية الدارونية المفرطة.







 في أطراف الفقاريات



منذ عهد أرسطو لاحظ علماء الأحياء أن الكائنات المختلفة عن بعضها اختلافًا شديدا قد تتشارك في تشابهات ملحوظة، وأحد هذه التشابهات هو التشابه الوظيفي؛ فللفراشة على سبيل المثال جناحان لتطير وكذلك الخفاش، ولكنّ الحيوانان مبنيان بطريقتين مختلفتين تماما. هنالك أيضا التشابه البنيوي أي النمط الذي يتخذه العظم، وتَوَزُّعه في جناح الخفاش يشبه نظيره في زعنفة الدولفين، على الرغم من أن الجناح للطيران بينما تستخدم الزعنفة للسباحة. في أربعينيات القرن التاسع عشر أطلق عالم التشريح البريطاني ريتشارد أوين، على النوع الأول من التشابه اسم التشابه الوظيفي (المضاهأة) Analogy، وعلى النوع الثاني اسم التشابه البنيوي (التناظر) Homology، كان التمييز بينهما في ذلك الوقت مساعدا أساسيا في التصنيف البيولوجي، حيث يوحي التشابه الوظيفي بالتكيف المستقل عن الظروف الخارجية، بينما يشير التشابه البنيوي لقرابة بنيوية أعمق، ولذلك اعتُبر المرشد المعتمد في تصنيف الكائنات معا إلى عائلات ورتب وأصناف وشعب.



تعد الأطراف الأمامية في الفقاريات من الأمثلة المتميزة على هذا التشابه البنيوي، وعلى الرغم من امتلاك الخفاش أجنحةً للطيران، وامتلاك الدولفين زعانف للسباحة، وامتلاك الحصان أرجلا للجري، وامتلاك الإنسان أيدٍ لتناول الأشياء، إلا أن نمط التوزع العظمي في الأطراف الأمامية متشابه.



تدفعنا مثل هذه التشابهات الهيكلية، إضافة إلى التقارب الداخلي مثل الدم الحار، وإنتاج اللبن، لتصنيف كل هذه المخلوقات كثدييات على الرغم من اختلافها الخارجي، ولذا اعتبر أوين مثل غيره من البيولوجيين ما قبل داروين، أن الخصائص المتشابهة بين الكائنات مشتقة من نموذج أصلي مشترك A Common Archetype، يمكن فهمه بعدة طرق فإما أن يكون فكرةً روحانيةً مثاليةً، أو خطةً أرادها الخالقُ، أو شكلًا أرسطويًّا متجذرا في بنية الطبيعة، أو كائنًا أوليًّا أصليًّا وغيرها الكثير. اعتبر كلّ من أوين وداروين أن الأصل المشترك هو كائنٌ أوليٌّ، لكن أوين لم يكن تطوريّا في تفكيره، حيث اعتبر أوين أن الكائنات مبنيةٌ على خطة واحدة، بينما نظر إليها داروين على أنها منحدرة من سلف مشترك.






(شكل 4-1): التشابه في أطراف الفقاريات.

 خفاش ، دولفين، حصان،  إنسان. يظهر العظام التي تعتبر متشابهة.



حاول داروين كثيرًا في كتابه (أصل الأنواع)، إثبات أن أفضل تفسير للتشابه البنيوي هو النشوء والارتقاء قائلا: “لو افترضنا أن سلفا أوليّا -النموذج الأصلي كما قد يسمى- لكل الثدييات والطيور والزواحف يملك هذه الأطراف الأمامية على النمط الموجود بالفعل، فإنَّ التشابه في هيكل عظام يد الإنسان وجناح الخفاش وزعنفة الدولفين، أو أرجل الحصان له تفسيرٌ واحد ألا وهو نظرية النشوء مع ارتقاء بطيء وطفيف”، واعتبر داروين التشابهَ البنيويَّ دليلًا هاما على التطور مصنفا إياه بين الحقائق التي تدعو “بصراحة وببساطة إلى تحدر جميع الأنواع والأجناس والعائلات التي لا حصر لها والتي تعمر هذا العالم من آباء مشتركين”.

كان هذا الربط بين التشابه البنيوي وبين السلف المشترك مركزيًّا جدا في نظرية داروين لدرجة أن أتباعه بالفعل أعادوا تعريف التشابه البنيوي ليعني الصفاتِ الموروثةَ من سلف مشترك. وحتى بعد أن أعادوا تعريف التشابه البنيوي، فلن يكتمل التبرير الدارويني دون آليَّةٍ تفسر سببَ التشابه الشديد بين الخصائص البنيوية المتشابهة في الكائنات المختلفة.



عندما ظهرت الداروينية الجديدة في العقدين (1930م و1940م) كان لديها فيما يبدو حلٌ لهذه المشكلة؛ وهو أن الخصائص البنيوية المتشابهة هي صفات لجينات متشابهة وتمَّ توارثُها من الأصل المشترك. في الحقيقة يعد التشابه البنيوي في أطراف الفقاريات بالنسبة للداروينيين دليلًا على نظريتهم، إلى جانب شجرة الحياة الداروينية -الأيقونة الأكثر شهرة في كتب علم الأحياء-، لكن هذه الأيقونة تخفي مشكلتين خطيرتين:

الأولى: بما أنه تم تعريف التشابه البنيوي كتشابه بسبب السلف المشترك، فستكون هذه مغالطة منطقية تسمى الاستدلال الدائري لتصل بها لاستنتاج وجود سلف مشترك.

الثانية: أن علماء الأحياء قد أدركوا لعقودٍ أن هذا التشابه البنيويَّ بين الكائنات ليس بسبب الجينات المتشابهة، لذلك فالآليّةُ التي تنتج بها لا تزال غير معلومة.




إعادة تعريف التشابه البنيوي




كان التشابهُ البنيويُّ بالنسبة لداروين عبارةً عن تراكيب متشابهة تُفَسر بواسطة الأصل المشترك، لكن بعض التراكيب المتشابهة ليست ناتجة عن الأصل المشترك، فعلى سبيل المثال، إنَّ بنية عين الأخطبوط مشابهة لبنية عين الإنسان إلى حد كبير، لكن علماء الأحياء لا يعتقدون أن السلف المشترك للأخطبوط والإنسان يملك عينا، وللتأكيد على أن البُنَى الموروثةَ من الأصل المشترك هي التي يطلق عليها التشابه البنيوي أعاد أتباع داروين تعريف التشابه ليعني التشابه بسبب الأصل المشترك. وعلى هذا فإن تعريف التشابه البنيوي لدى داروين ومَنْ سبقه كان: “التشابه في البنية والموضع مثل نمط العظام في أطراف الفقاريات”، لكن التشابه في البنية والموضع لا يفسّر من أين جاء التشابه البنيوي، فكان لا بد من تقديم تفسير للأمر. بالنسبة لعلماء الأحياء ما قبل داروين كان التفسير هو الاشتقاق من نموذج أصلي Archetype، عرَّفَ داروين هذا الاشتقاقَ بالتطور الحيوي، وعرَّفَ النموذجَ الأصليَّ بالسلف المشترك.






لكن في القرن العشرين ومع الداروينية الجديدة، صار السلف المشترك هو تعريف التشابه البنيوي، وكذلك أيضا تفسيره، حيث يصرح إرنست ماير، أحد المهندسين الأساسين للداروينية الجديدة قائلا: “بعد عام 1859م، كان هناك تعريفٌ واحد فقط للتشابه البنيوي في علم الأحياء، ألا وهو وصْفُ الكائنيْن بأنهما متشابهان بنيويًّا إنْ كانا يحملان الخاصيةَ المذكورةَ من سلفهما المشترك”. وبعبارة أخرى، فإن التطور كان نظرية عند تشارلز داروين، والتشابه البنيوي هو الدليل عليها، أما عند أتباع داروين فقد تم ترسيخ فكرة التطور بشكل مستقل وصار التشابه نتيجةً لها، والمشكلة الآن أنه لا يمكن استخدام التشابه البنيوي كدليل على التطور إلا باستخدام مغالطة منطقية -الاستدلال الدائري ــــ.




التشابه البنيوي والاستدلال الدائري






تأمل في مثال تناظر عظام الأطراف الأمامية في الشكل (4-1)، الذي اعتبره داروين كدليل على السلف المشترك للفقاريات، يجب على الداروينيين الجدد الذين يريدون أنْ يقرروا هل الأطراف الأمامية للفقاريات متناظرة أم لا أن يقرروا أولًا هل هي منحدرة من سلف مشترك أم لا، وبعبارة أخرى يجب أنْ نجدَ دليلًا على السلف المشترك قبل أنْ نصفَ الأطراف بأنها متناظرة، عندها لن يستطيع هؤلاء العودة لإثبات التطور بدليل تناظر الأطراف، لأن ذلك يعني الدوران في حلقة مفرغة: “الأصل المشترك يفسر التناظر ، والتناظر يفسر الأصل المشترك!”.





الشكل (4-2) التشابه والاستدلال الدائري:



في الأعلى يستدل داروين كمنْ سبقوهُ على التناظر من التشابه البنيوي، ثم يستنتج الأصل المشترك من التناظر، وفي الأسفل في الاستدلال الدائري الذي يستخدمه بعض الداروينيين الجدد: نستدل على التناظر من الأصل المشترك، ثم نستدير ونستدل من الأصل المشترك على التناظر.

لوحظت هذه المغالطة المنطقية وانتقدها كثير من الفلاسفة وعلماء الأحياء، ففي عام 1945م كتب Woodger يقول: “إن التعريفَ الجديد كان بمثابة وضع العربة أمام الحصان”. كما أشار ألان بويدن في عام 1947م إلى أن: ” يستلزم التناظر الدارويني الحديث أن نعرف أولًا الأصلَ، ومن ثَمَّ نقرر أنَّ الأعضاء أو الأجزاء المقصودة متناظرة، وكأننا نستطيعُ أنْ نعرفَ الأصلَ المشتركَ دون التشابهات الضرورية التي ترشدنا”. عندما حاول عالم الحفريات الدارويني جورج جايلور سمبسون أن يستخدم التناظر كأصل مشترك ليستنتج منه علاقات تطورية، انتقده عالما الأحياء روبرت سوكال وبيتر سنيث بسبب مغالطته المنطقية بالاستدلال الدائري.

انبرى فلاسفة الداروينية الجدد للدفاع عن تعريفهم، حيث أشار مايكل غيسيلين في عام 1966م إلى أن تعريف الداروينية الجديدة ليس دائريّا؛ لأن التناظر لا يُعرَّف بنفسه. لكن هذا لا يحل المشكلة؛ لأنه على الرغم من أنَّ التعريفَ ليس دائريا، إلَّا أن الاستنتاج المبني عليه دائريٌّ، في العام التالي جادل ديفيد هول، بأنَّ السبب ليس دائريا، لكنه مجرد مثال على طريقة التقريب المتتابع، أو كما سماها البيولوجي الألماني ويلي هيننج، طريقة الظهور التبادلي.

بالنسبة لـ(هول) يبدأ علماء الأحياء التطوريون بافتراض فرضية خاصة حول الأصل المشترك، ثم يستخدمون التشابهات بين الكائنات ليعيدوا تحسين فرضيتهم، لكن هذه الطريقة -والتي انتقدت فورا بسخرية كمحاولة لالتماس طريق في الظلام- تعمل فقط في حال افترضنا أنَّ الأصل المشتركَ حقيقيةٌ -إنْ قبِلْنا بها أصلا-، لكن لو كان السؤال: هل نظرية داروين أصلا حقيقة؟ وهل هناك أصل مشترك من الأساس؟ حينها ستكون نظرية هول استدلالا دائريا من جديد.



ثار الجَدَلُ من حينها، ودافع الداروينيون الجُددُ عن فكرتهم بأن التشابه يشير إلى الأصل المشترك، بينما تعترض الانتقادات على ذلك لأنه خلْطٌ للتعريف بالتفسير مؤدّيًا إلى المنطق الدائري. في عام 1985م، كتب الفيلسوف رونالد برادي قائلا: “عندما نحشر تفسيراتنا في تعريف ظاهرة ما فإننا لا نعبر عن فرضيَّةٍ علميِّة، بل نعبر عن إيمان أو عقيدة. كمن هو مقتنع تماما بأن التفسيرات صحيحة لدرجة أنه لا يرى حاجة ليميزها من الموقف الذي يريد تفسيره، يجب أنْ يغادرَ هذا المسعى العقائدي مملكة العلم”.



كسر الدائرة



يبدو أنَّ هناك ثلاثَة طرقٍ لتجنب تلك المغالطة المنطقية، والتي هي تعريفُ وتفسيرُ التشابه ضمن مصطلح الأصل المشترك.



الطريقة الأولى: أنْ نقبلَ تعريفَ الداروينية الحديثة، ولكن نتوقف عن محاولة استنتاج فكرة سلف مشترك منها، أو بعبارة أخرى، أن نعترف بأنَّ التناظر لا يقدم دليلًا على التطور، أو كما قال عالم الأحياء التطوري ديفيد ويك عام 1999م: “الأصل المشترك هو أصل التناظر” ومن ثم فإن “التناظر هو نتيجة متوقعة للتطور”، وبالتالي “التناظر ليس دليلا على التطور”.



الطريقة الثانية: أنْ نعود لتعريف ما قبل الداروينية، وهو أنَّ التناظر مجردُ تشابهٍ بنيويٍّ، لكنّ علينا أن نعترف بأنَّ هذا يعيدُ فتح السؤال: هل النشوء والارتقاء هو الطريقة الأفضل لتفسير هذا التشابه؟ ولكن من الصعب أنْ نجدَ من يدافع عن الطريقة الثانية بين علماء الأحياء في أمريكا، لأنَّه من غير الشائع – ويمثل مخاطرة مهنية محققة – أنْ تشكك في كون التطور الدارويني التفسيرَ الأفضل.



الطريقة الثالثة: والأكثر شيوعًا الآن، هي أنْ تعرِّفَ التناظر بمصطلح الأصل المشترك، ثمَّ تبحث عن دليلٍ مستقل للنشوء والارتقاء، ربما يأتي مثل هذا الدليل من نماذج مثل: مقارنة تسلسل DNA، أو السجل الأحفوري، أو ربَّما من عمليات مثل: المسالك النمائية والوراثيات النمائية Developmental Pathways-Developmental Genetics، أما النموذجان الأوليَّان –الـ DNA والسجل الأحفوري- فهما مبنيَّان على نموذج العلاقة بين الأصل والمتحدر عنه، وأما العمليَّتان -المسالك النمائية والوراثيات النمائية- فهما تحاولان تعريفَ العمليات التي ستفسر التشابه الناتج عن السلف المشترك.




استخراج الدليل من تسلسلات الـدنا




كما رأينا في الفصل السابق؛ إنَّ علمَ نشوء السلالات الجزيئي Molecular Phylogenies مبنيٌّ على مقارنة تسلسلات الــDNA، أو منتجاته البروتينية في كائنات مختلفة، ولأنَّ تسلسلات الـDNA تنتسخ مباشرة من تسلسلات DNA سابقة خلال انْقِسام الخلية بعملية التضاعف، فإن المختصين بعلم نشوء السلالات الجزيئي يفترضون أن هذه التشابهات في قطع الحمض النووي تشير إلى وجود علاقة مع أصل مشترك أكثر مما تشير إليه التشابهات الشكلية التي تنتج عن سلسلة طويلة معقدة من الأحداث في الجنين وليست موروثة بشكل مباشر من الأبوين.



لسوء الحظ، فإنَّ الكثيرَ من الصعوبات تواجه مقارنةَ التسلسلات الجزيئية، كما هو الحال في المقارنات الشكلية لعدة اعتبارات.



أولا: معنى التناظر فلا يزال هذا المعنى يمثل مشكلة، كما قال عالم البيولوجيا الجزيئية ديفيد هيل عام 1994م: “تُستخدم كلمةُ التناظر الآن في البيولوجيا الجزيئية لتعني كل شيء بدْءًا من التشابه البسيط جدا -أيًّا كان سببه- وصولا إلى الأصل المشترك بغض النظر عن البُنى غير المتشابهة بين الكائنات المشتركة بهذا الأصل”. ومن ثَمَّ فإن: “على علماء الأحياء الجزيئية بذل الجهد للتغلب على إشكالية مفهوم كلمة التناظر أكثر من غيرهم”.

ثانيا: تحديد التسلسلات الجزيئية المتناظرة صعب كتحديد الأعضاء المتناظرة ، فقد قال هيل: “صرح بعض المؤيدين للتكنولوجيا الجزيئية أن علم الأحياء الجزيئي يحل مشكلة التناظر، لكن تبقى الصعوبات التي تواجه مشكلة التناظر في الحمض النووي مساوية لنظيرتها في البنى الشكلية للأعضاء”.

وأخيرا: فالتناظر الجزيئي يولد الكثير من النتائج المتضاربة كتلك الناتجة عن التناظر الشكلي، أو كما صرح علماء الأحياء كولن باتيرسون وديفيد ويليام وكرستوفر همفريس عام 1993م بأن: “التطابق في نتائج التاريخ الجزيئي مُوهمٌ مثل التطابق في شكل الأعضاء”. لكن عندما تتضارب نتائج التاريخ الجزيئي تبقي الطريقة الوحيدة لترجيح إحدى هذه النتائج على غيرها هو تحديد الأصل المشترك بطريقة مستقلة، وهذا يعيدنا لنفس المغالطة المنطقية في الاستدلال الدائري التي كان من المفترض أنْ نتجنبها.


السجل الأحفوري




ماذا عن السجل الأحفوري؟ حاول بعضُ علماء الأحياء إثبات أن الطريقة المثلى لتحديد العلاقات التطورية تكمن في اقتفاء أثر التشابهات بين كائنين أو أكثر، رجوعا إلى الوراء عبر سلسلة غير منقطعة من الكائنات الأحفورية وصولًا إلى الأصل المشترك، ولكن لسوء الحظ أن مقارنة الأحفوريَّات ليست أكثر دقة من مقارنة العيّنات الحية، وكما أشار العالمان سوكال وسنيث عام 1963م إلى أنه: “حتى عندما تكون الأدلة الأحفورية متاحة، فإنَّ هذا الدليل نفسَهُ يجب أنْ يُفَسَّر أولا عن طريق مقارنة الصفات المتشابهة بين الكائنات، ولذا فإنَّ أيَّة محاولةٍ لاستنتاج علاقاتٍ تطوريةٍ بناء على التشابه بين الأحفوريَّات ستدخلنا مباشرة في استدلال دائري لا مفر منه”.



في الحقيقة إنَّ استنتاج العلاقة التطورية من السجل الأحفوري أصعب من استنتاج علاقات تطورية بين الكائنات الحية؛ ذلك لأنَّ السجل الحفريَّ متقطعٌ ولا يحتفظ بكل الصفات اللازمة لهذا الاستنتاج. بهذا صرح عالم الأحياء بروس يونج عام 1993م قائلا: “في الحقيقة إنّ الأحفوريَّات أقلُّ فائدة في تحديد التناظر، لأنها عادة ما تحتوي تفاصيل أقلَّ إذا ما قارنَّاها بالكائنات الحية”. ولكن حتى لو اكتمل السجل الأحفوري واحتفظ بالصفات جميعها فإن ذلك لا يعني أبدًا أنَّ التناظر يعود لوجود أصل مشترك بين الكائنات، أشار إلى هذه المشكلة –سهوًا- عالمُ الأحياء (تيم بيرا) في كتابه المعد للدفاع عن نظرية داروين ضد انتقادات الخلقيين عام 1990م، قارن بيرا السجل الحفري بسلسلة من موديلّات السيارات قائلا: “لو قارنْتَ بين سيارة من نوع كورفيت عام 1953م وأخرى عام 1954م، ثم قارنت بين سيارتي عامي 1954م و1955م، وهكذا فإنك ستلاحظ ظاهرة النشوء والارتقاء! هذا ما يفعله علماء الأحفوريات مع المستحاثات، وهذا الدليل قوي وشامل لدرجة أنه لا يمكن لشخص عاقل أن ينكره”.



إن المثال الذي أورده بيرا يلقي الضوء – من حيث لا يعلم- على مشكلة استخدام سلسلة متتابعة من التشابهات بين الكائنات كدليل على نظرية داروين، فكلنا يعلم أن السيارات تصنع بناء على نموذج أولي أصلي Archetypes يرسمه المهندسون؛ لذا فإن من الواضح إمكانية إيجاد تفسيرات أخرى لسلسة التشابهات هذه، وكذلك الأمر بالنسبة للنشوء والارتقاء.



فسر معظم علماء الأحياء في الفترة ما قبل الداروينية تلك التشابهات بشيء قريب من صناعة السيارات، وهو أن الخلق يجري على تصميم معين، لذا عندما أراد بيرا الدفاع عن التطور الدارويني ضد تفسيرات الخلقيين، فإنه –عن غير قصد- أظهر أن الدليل الأحفوري متوافق مع كلا الرؤيتين، وهذا ما دعى أستاذ القانون ـــوالناقد للنظرية الداروينيةــــ فيليب جونسون، أن يسمي هذا المثال بـ(حماقة بيرا).





حماقة بيرا (شكل 4-3)

استخدم بيرا أربع موديلات سيارات كورفيت للدلالة على عملية الانحدار مع التغير، يظهر هنا من الأسفل للأعلى موديلات (1953م، 1963م، 1968م، 1978)



أظهرت حماقة بيرا أن التتابع البسيط في النماذج المتشابهة لا يغني عن التفسير، وأننا بحاجة إلى شيء أهم؛ ألا وهو الآلية، ففي حالة السيارات نجد أن الدليل الإضافي هو أننا نعرف أنها صناعة بشرية، وهذا ملحوظ مباشرة، لكن لا يوجد دليل على سبب تتابع الأحفوريات. وهنا تأتي نظرية داروين الذي كان يعتبر أن التفسير هو النشوء والارتقاء، لكن النشوء والارتقاء هي مجرد كلمات، إذا لم تربط بعمليات حيوية فعلية.



أدرك داروين ذلك فكتب في كتابه (أصل الأنواع) أنَّ عالِمَ الطبيعة إذا فكر مليًّا في الأدلة الحيوية لربما وصل إلى خلاصة أن الأنواع لم تخلق بطريقه مستقلة، لكنها انحدرت من أنواع أخرى. ومع ذلك فإن مثل هذه الخلاصة -وحتي لو كان لها ما يؤيدها- فإنها غير مُرْضِيَة، حتى تشرح لنا كيف انحدرت الأنواع التي لا حصر لها في هذا العالم، ثم لخص داروين ذلك قائلا: “لذا فإنه من الأهمية بمكان الحصول على رؤية واضحة عن طرق النشوء والارتقاء بين الكائنات”.



بالطبع إن وسيلة إحداث الارتقاء في نظرية داروين هي (الانتخاب الطبيعي)، لكن وسيلة النشوء ما تزال موهمة، ففي عملية التكاثر المألوفة “يشبه الولد أباه”، فهل يستطيع الانتخاب الطبيعي تغيير هذه العملية لدرجة إنتاج ولد مختلف بعض الشيء عن والده؟ لم يكن داروين يعرف ما يكفي حول تطور الأجنة ليجيب عن هذا السؤال، ودون معرفة الكيفية التي تجعل الأجنة متشابهة فإنَّ من المجازفة أن تعطي استنتاجا بأنَّ آليات غير معلومة في نشأة الجنين يمكن أن تتعدل بواسطة الانتخاب الطبيعي.



كتب عالم الأحياء التطورية في جامعة شيكاجو (لي فان فالين) في عام 1982م أن مفتاح تفسير التناظر هو فهم استمرارية المعلومات؛ فالجنين يحتوي على معلومات موروثة من أبويه توجه نموه، ودون أن نفهم طبيعة هذه المعلومات –الجينات- لا يمكننا أن نفهم كيف يمكن أن يتم مثل هذا التغير، يمكن أن تكون هذه المعلومات النمائية الجنينية في صورة السبل النمائية Developmental Pathways، أو الطرق التي يتم بها انقسام الخلايا وتحركها ومن ثم تمايز الأنسجة Differentiation لإنتاج البنى البالغة، أو ربما تكون في صورة جينات تحمل شفرات تتحكم في نمو الجنين، لكن لا الطرق التي ينمو بها الجنين، ولا الجينات التي تتحكم في نموه، يمكن أن يحلا مشكلة التشابه.



الدليل من السبل التي ينمو بها الجنين Developmental Pathways:



لم تعد تلك النظرية -التي تعتبر أن الأجزاء المتشابهة ناتجةٌ عن سبل نمو متشابهة- متوافقة مع الأدلة، حيث أدرك ذلك علماء الأحياء منذ ما يزيد على قرن مضى، وبهذا صرح عالم الأجنة الأمريكي إيدموند ويلسون عام 1894م قائلًا: “إنها حقيقة مألوفة، غالبا ما تكون الأجزاء المتقاربة جدا بين البالغين -والتي لا نشك أنها متناظرة- مختلفة بشكل واسع في الأصل اليرقي أو الجنيني، إما في طريقة التكوين أو في المكان الذي تتكون فيه أو في كليهما”. وبعد أكثر من ستين عاما، وعند مراجعة الأدلة الجنينية التي تجمعت منذ زمن ويلسون، كتب عالم الأحياء البريطاني جافين دي بير مؤيدا ويلسون: “الحقيقة هي أنه لا يمكن أن نرجع التطابق بين البنى المتشابهة لتشابهات في أماكن الخلايا ضمن الجنين، أو في أجزاء البيضة التي تكونت منها تلك الأجزاء، أو حتى في الآلية التي تتشكل بها تلك البنى”.



كان تقييم جافين دي بير دقيقا ومازال، وفي عام 1985م كتب عالم الأحياء التطورية بيير ألبيرتش: “هذه هي القاعدة وليست الاستثناء؛ فالأجزاء المتشابهة تتكون في أماكن مختلفة غير متشابهة في الأجنة”. وكذلك عالم الأحياء التطورية (ردولف راف) الذي درس نوعين من قنافد البحر يتكونان بسبل نمو مختلفة ليصيرا متشابهين جدا وهما في مرحلة البلوغ، فقد دفعه هذا لإعادة التصريح بالمشكلة عام 1999م، حيث كتب يقول: “إن الأجزاء المتناظرة بين كائنين مرتبطين ببعضهما ينبغي أن تظهر عبر عمليات نمو متشابهة، والصفات التي نراها متناظرة من خلال شكلها أو تاريخها العرقي، يمكن أن تتكون بطرق مختلفة أثناء نمو الجنين”.



إن فقدان التوافق بين التناظر والطرق التي ينمو بها الكائن ليس صحيحا في العموم فقط، بل أيضا في حالتنا بصفة خاصة أيضا -أطراف الفقاريات-، والمثال الكلاسيكي على ذلك هو السمندل.



في معظم أطراف الفقاريات تنمو الأصابع من الخلف إلى الأمام؛ أي في الاتجاه من الذيل إلى الرأس، هذا يحدث تماما في الضفادع، لكن أحد أقرباء الضفادع البرمائيين –السمندل- يقوم بذلك بطريقة مختلفة، في السمندل يتم النمو الجنيني للأصابع في الاتجاه المعاكس من الرأس إلى الذيل. كان هذا الاكتشاف صادما لدرجة أن بعض علماء الأحياء حاولوا القول: بأن التاريخ التطوري للسمندل يجب أن يكون مختلفا تماما عن كل الفقاريات بما فيها الضفادع.



وتوجد شذوذات أخرى؛ فأنماط هياكل عظام أطراف الفقاريات تبدأ كغضاريف ثم تتحول لاحقا إلى عظام، فلو كان النمو في أطراف الفقاريات يعكس أصلها من السلف المشترك، فيمكننا أن نتوقع رؤية غضاريف سلفية في النمو الجنيني المبكر، لكن ليس هذا هو الحال؛ فالنمط الغضروفي يماثل ذلك الخاص بأطراف الفقاريات من البداية ليس فقط في السمندل، بل في الضفادع والصيصان والفئران أيضا.



وفقا لعالميّ الحيوان البريطانيين (ريتشارد هينشليف وجريفيث)؛ فإن فكرة تطور أطراف الفقاريات من سلف جنيني ظهرت بدافع من أفكار مسبقة لدى الباحثين قبل إيجاد الدليل. لذا فإذا كانت السمات المتشابهة -بما فيها أطراف الفقاريات- ليست ناتجة عن تشابهات في سبل النمو الجنيني، إذًا ماذا عن التناظر الجيني؟



الدليل من علم الجينات التطوري



وفقا للنظرية الداروينية الحديثة فإن المعلومات التي تحدث عنها (فان فالن) والتي تنتقل من جيل لآخر لتجعل الولد شبيهَ أبيه، تنتقل عبر تسلسلات الـDNA، أو ما يُعْرَفُ بالمورثات، فالمورثات تحمل المعلومات من جيل لآخر، والتي توجه نمو الكائن في مرحلته الجنينية، ومن ثم فإن الداروينية الحديثة تفسر البُنى المتناظرة بأنها الأجزاء التي تمت برمجتها بجينات متشابهة موروثة من أصل مشترك، فإذا ظهر لنا أن الأجزاء المتشابهة في كائنين مختلفين نتجا عن جينين متشابهين، وأن الأجزاء المتناظرة لا يمكن أن تنتج عن جينات مختلفة، حينها يمكننا أن نمتلك دليلا على استمرارية تدفق المعلومات التي كتب عنها فان فالين.



لكن الحقيقة ليست كذلك، وعلماء الأحياء يعرفون ذلك منذ عقود، ففي عام 1971م كتب جافين دو بيير يقول: “لأنَّ التناظر يعكس اشتراكا في الانحدار من الأصل المشترك، فيجب أن نعتقد أن علم الجينات بمقدوره تزويدنا بمفاتيح لحل مشكلة التناظر، وهنا حدثت أسوأ الصدمات؛ لأن الصفات التي تتحكم فيها جينات متطابقة ليست بالضرورة متناظرة، والأجزاء المتناظرة لا تتحكم فيها بالضرورة جينات متطابقة”. ثم خَلص إلى أن: “توارث البنى المتناظرة من سلف مشترك لا يمكن أن يُعْزَى إلى هوية الجينات”.



ولكي يشرح دو بيير وجهة نظره -أنَّ البُنى المتناظرة يمكن أنْ تنشأ من جينات مختلفة- اقتبس تجربة واحدة فقط لتطور العين عند ذباب الفاكهة، ولكن في الحقيقة هناك أمثلة أخرى كثيرة اكتشفت بعد ذلك، ومنها تكون التقاسيم على جسم الحشرات، تحتاج أجنة ذباب الفاكهة إلى الجين Even Skipped من أجل تطوير تقاسيم جسمها بشكل سليم، لكن حشرات أخرى مثل الجراد والدبور لها نفس التقاسيم دون الحاجة لذلك الجين، ولأنَّ تقاسيم جسم جميع الحشرات متناظرة -سواء كان ذلك لتشابه التركيب، أو للسلفية المشتركة- فيبدو أن الصفات المتناظرة لا تستدعي بالضرورة أن تكون محكومة بمورَثات متطابقة، ومن الأمثلة الأخرى مورثة تسمى Sex Lethal؛ وهذه المورثة تعمل على تحديد الجنس في ذباب الفاكهة، لكن غيرها من الحشرات التي تتمايز إلى ذكور وإناث لا تحتاج إلى هذه المورثة.



ومن الجهة المقابلة سنجد بُنًى غير متناظرة تنشأ من جينات متطابقة، وهو الأمر الأكثر شيوعا والأكثر إذهالا، فهاهم علماء الوراثة يكتشفون أن هناك العديد من المورَثات -التي تحتاجها ذبابة الفاكهة من أجل نموها بشكل سليم- تتطابق تماما مع مورثات لدى الفئران وقنفذ البحر وحتى الديدان. في الحقيقة لقد أظهرت تجارب نقل المورثات إمكانية استبدال المورثات المسؤولة عن النمو الجنيني لدى الفئران أو البشر بتلك المورثات الشبيهة الموجودة في ذبابة الفاكهة، وهنا يبرز السؤال: إذا كانت المورثات تتحكم في بنية الجسم، وإذا كانت المورثات الخاصة بالنمو في الفئران وذباب الفاكهة شبيهة جدا ببعضها البعض، فلماذا لا ينمو جنين الفأر ليصير ذبابة، ولماذا لا ينمو جنين الذبابة ليصير فأرا؟



إن فقدان توافق المورثات مع تراكيب الجسم لا يقتصر على نمو الكائن بأكمله فقط، بل على أجزائه أيضا كأطراف الفقاريات، وأحد تلك المورثات المشتركة عند أنواع مختلفة من الحيوانات المورثة التي تدعى Distal-Less سميت بذلك لأن الطفرة فيها تؤدي إلى منع نمو الأطراف بشكل صحيح في ذبابة الخل، وDistal يعني البنى المنفصلة عن الهيكل الأساسي للجسم.



هناك مورثة شبيهة جدا بها ولها نفس التسلسل على الـDNA وتوجد في الفئران كما في قنافذ البحر والديدان الشوكية -إحدى أعضاء شعبة الديدان الأرضية- والديدان المخمليةValvet Worms وهي شعبة مختلفة كليا.







الشكل 4-4: المورثات المتشابهة في الأطراف غير المتشابهة.



المورثة Distal-Less تتدخل في نمو الزوائد في كل الحيوانات الخمسة هذه، مع أن هذه الزوائد ليست متشابهة لا من حيث البنية ولا بالأصل المشترك، كل واحدة من هذه الحيوانات تنتمي لشعبة مختلفة وهي عكس عقارب الساعة: فأر، دودة شوكية، فراشة، قنفذ البحر -الأطراف هي أقدام أنبوبية تحت الجسم–، الدودة المخملية.



تتدخل المورثة Distal-Less في كل تلك الحيوانات في نمو زوائد الجسم، وهي ليست متناظرة بنيويا ولا تطوريا، حيث صرح علماء الأحياء الذين اكتشفوا المورثة في الحيوانات عام 1997م: ” تمثل تلك التناظرات لُغْزًا، إذ أن تلك الزوائد متباينة جدا في تركيبها التشريحي وتاريخها التطوري”. في عام 1999م وجدَ (غريغوري راي) تلك العلاقة المدهشة بين Distal-Less، وبنى متشابهة ظاهريّا لكنها غير متناظرة، وعلى هذا استنتج: “أن ارتباط المورثة التنظيمية ببنى عديدة غير متناظرة هو القاعدة وليس الاستثناء”.



ليست الجينة Distal-Less الوحيدة المتشابهة، وإنما وجد أن كل الشبكة المورثية التي تتدخل في نمو الأطراف متشابهة بين الحشرات والفقاريات، وقد كتب العلماء الثلاثة الذين وصفوا تلك الشبكة من الجينات عام 1999م (وهم: كليفورد تابين، سين كارول، جريس بانجانيبان): “لا توجد استمرارية لأي بنية تشتق منها زوائد الحشرات والفقاريات، وبالتالي فهي ليست بنى متناظرة. على أي حال هناك دليل مستفيض على استمرارية المعلومات الجينية” المشاركة في نموها.



جادل علماء الأحياء التطورية بأن التشابه المدهش بين المورثات المسؤولة عن النمو الجنيني بين شعب متنوعة من الحيوانات يشير إلى أن لها أصلا مشتركا -ربما-، لكنهم بذلك يصطدمون مع المشكلة نفسها التي واجهناها سابقا مع علم نشوء السلالات الجزيئي Molecular Phylogenies، وتستمر مشكلة تفسير التشابه بين أجزاء الكائنات بغير حل.



الخلاصة واضحة؛ سواء كان التناظر يعود للنشوء والارتقاء أم لا، فإن الآلية المحددة المسؤولة عن حدوثه لا تزال مجهولة. كَتَبَ العالمُ (جافين دو بيير) عام 1971م باستهجانٍ يقول: “ما هي تلك الآلية التي تنتج عنها أعضاء متناظرة على الرغم من اختلاف المورثات المسؤولة عنها؟ سألت هذا السؤال عام 1938م، ولم أجد جوابا بعد”. واليوم بعد أكثر من ستين عاما على طرح السؤال، لم يجد سؤال دو بيير مجيبا بعد!



أطراف الفقاريات كدليل على التطور



كيف تمدنا أطراف الفقاريات بدليل على التطور الدارويني؟ وإذا كانت الطرق بين الكائنات غير متصلة سواء الجينية منها أو الجنينة، فكيف نعرف أنها قد جاءت من النشوء والارتقاء؟ وهل يمكننا أصلا أن نستنتج وجود أصل مشترك من التناظر؟ إن رسخنا تعريف التناظربأنه صفات منحدرة من أصل مشترك، فكيف نستخدمها كدليل على التطور؟ هذه بعض الأسئلة العلمية المنطقية، ولكن طلاب علم الأحياء لن يروها في كتبهم غالبا.



تستخدم معظم المراجع الأحيائية تقريبا أطراف الفقاريات كمثال تشرح عليه التشابه، ثم تصرح بأن التشابه هو دليل على الأصل المشترك، ثم إن معظم تلك المراجع تُعَرِّفُ التشابه بأنه ما نتج عن أصل مشترك، وعلى هذا فإنهم يقعون في نفس الحلقة المفرغة التي استمر نقدها من قبل الفلاسفة وعلماء الأحياء لأكثر من نصف قرن من الزمن.



خذ على سبيل المثال طبعة عام 1999م من كتاب (علم الأحياء: الحياة على الأرض) لكل من تيريزا وجيرالد اوديسيرك، حيث يقولان فيه: “إنَّ الأعضاء المتشابهة في البنية تُسمى بُنى متناظرة، مما يعني أنَّ لها نفسَ الأصل التطوري”. وفي نفس الصفحة تصرح بأن البنى المتناظرة تمدنا بالدليل على علاقة القرابة بين الكائنات، وبأسطر شبيهة في النسخة الأخيرة من كتاب (الأحياء) لسيلفيا مادر تصرح فيها: “أن البُنى التي تتشابه بسبب أنها موروثة من أصل مشترك تسمى البنى المتناظرة”. وفي نفس الصفحة تكتب: “هذه الخطة الموحدة، تمثل دليلًا على الأصل المشترك”.



ووفقا لطبعة عام 1999م من كتاب (الأحياء) لبيتر رافن وجورج جونسون، يتم تعريف التناظر بأنه: “بنى لها أشكالٌ مختلفة ووظائف مختلفة ولكنها تنحدر من نفس جزء الجسم في الأصل المشترك”. ويصرح الكتاب أيضا بأن التشابه يمثل دليلا على علاقات تطورية، وفي طبعة عام 1999م، من كتاب (الأحياء) لكلٍّ من كامبل وريس ومايكل يقولون فيها: ” يُعرف التشابه في الصفات -والناتج عن الأصل مشترك- بأنه تناظر، والصفات التشريحية الناتجة عن التطور تسمى بالبنى المتناظرة، فالتشريح المقارن يعمل مع غيره من الأدلة كشهود صدق لصحة التطور”.



إن هذه المراجع لا تعطي الطلابَ أيَّ تنبيهاتٍ على ذلك الجدال الواسع الذي ذكرناه حول التشابه، وبدلا من ذلك فإنها توحي بأن من المنهجية العلمية تعريف التشابه اعتمادًا على الأصل المشترك، ثم تستخدم ذلك التعريف لتستنتج منه وجودَ أصلٍ مشترك. تجعل مثل هذه المغالطات المنطقية المعروفة بالاستدلال الدائري تفكيرَ الطلابِ ضَحْلًا وغيرَ نقَّاد، لكن هذه ليست مشكلة علمية فحسب، وإنما هي مشكلة تخص مجتمعنا ككل، فالديمقراطية تحتاج مواطنين متعلمين جيّدا، يمكنهم التعرف على البراهين المغلوطة والتفكير بأنفسهم ليختاروا الصواب، بدلًا من أن يكونوا سهلي الانقياد يبتلعون كل ما يطعمهم إياه نجوم السلطة.



التفكير النقدي على المحك



مواجَها بتلك الاستدلالات الدائرية الشائعة في معظم مراجع علم الأحياء، على الطالب أن يسأل المزيد من الأسئلة في الفصل، قال الكاتب العلمي المتميز هينري جي في المجلة المعتبرة (Nature): “يجب ألا يخاف أحدٌ من طرح الأسئلة السخيفة”. ففي العلم: “الأحكام التي تؤخذ من السلطة -حتى وإنْ كانت سلطة علمية- يجب أن تكون محلا للفحص الدقيق، حتى ولو من قبل طالب مبتدئ”.



ماذا يمكن أن يحدث إذا سأل طالب مبتدئ بعض تلك الأسئلة المحترمة حول التناظر؟ ربما أستطيع تخيُّل ذلك الحوار بين ذلك الطالب الفضولي وأستاذه في الأحياء على النحو التالي: أستاذ: حسنا، لنبدأ درس اليوم مع مراجعة سريعة للحصة السابقة، أمس تكلمت عن التناظر، وقلنا إن الصفات المتناظرة -مثل أطراف الفقاريات التي تراها في كتابك- تمدنا بأفضل الأدلة على أن الكائنات الحية تطورت من أصل مشترك.

الطالب -رافعا يده-: أعرف أننا تكلمنا في هذا أمس، لكنني ما زلت مرتبكا، كيف نعرف أن هذه الصفات متناظرة أم لا؟

الأستاذ: حسنا، لو نظرت إلى أطراف الفقاريات لوجدت أنها تؤدي وظائف مختلفة، لكن عندما تنظر إلى النموذج العظمي تجده متشابه.

الطالب: لكنك أخبرتنا أمس، أنَّه على الرغم من أنَّ عينَ الأخطبوط، هي شبيهة في التركيب بعين الإنسان، إلا أنَّ الاثنين غير متناظرتين!

الأستاذ: وهذا صحيح، فعيون الإنسان والأخطبوط ليستا متناظرتين؛ لأنَّ أصلهما المشترك لم تكن لديه عيون.

الطالب: إذًا بغض النظر عن التشابه الشكلي، لن تكون الصفات متناظرة إلا إذا وُرثت من أصل مشترك.

الأستاذ: نعم، وصلت لما أريد.

الطالب -يبدو متحيرا-: حسنا، بالفعل أنا مرتبك، أنت قلت: إنَّ الأجزاء المتناظرة تمدُّنا بأحد الأدلة العظيمة على التطور من أصل مشترك، لكن -بناء على كلامك- لا يمكن أنْ نعرفَ ما إذا كانت الصفات متناظرة إلا إذا عرفنا أنها جاءت من أصل مشترك.

الأستاذ: هذا صحيح.

الطالب -يحك رأسه-: لابُدَّ أنه فاتني شيءٌ ما، يبدو أنَّك تقول: إننا نعرف الصفات المنحدرة من أصل مشترك، لأنها منحدرة من أصل مشترك. أليس هذا استدلالا دائريا؟

عند هذه النقطة، ينهي الأستاذُ الحوارَ ببساطة، وينتقل لشيء آخر. لكن لو كان التعليم قائما على المنهج العلمي لتوقف الأستاذ عند المشكلة وبحثها، وأعطى لها وقتا كافيًّا في الفصل ليتم تحليلها ومناقشتها، وبدل أنْ يطلب من الطالب أنْ يحفظَ تلك الاستدلالات الدائرية، كان يمكننا تشجيعه ليفكر حول الاختلاف بين النظرية والدليل، وكيفية المقارنة بينهما. إنْ تحققَ ذلك سيغدو الطلابُ علماء أفضل ومواطنين أفضل.
__________________________________________________________________________


المصدر : كتاب “أيقونات التطور” تاليف جوناثان ويلز
، ص 54- 71 ، الطبعة الاولي ؛ دار الكاتب 
ترجمة: مركز براهين لدراسة الالحاد ومعالجة النوازل العقدية 
https://www.facebook.com/braheen.org?ref=bookmarks


LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...